طيران فوق الأنقاض

حجم الخط
2

اشتهر مدير السجن بين السجناء بلطافته وتواضعه واختلافه عن رجاله الهمج الوحوش، فكلما مات سجين في أثناء التعذيب دمعت عينا مدير السجن، وارتعش صوته، وأمر بتغسيل الميت وتكفينه ودفنه في مكان لائق خفي، ومنع تسليم أشلائه إلى أهله حتى لا تتكاثر مصائبهم، ولا تفارق الابتسامة وجهه لحظة تهوي عصاه على رؤوس سجنائه، ويبادر إلى التبرع بكميات وفيرة من الأسبرين والأسبرو لكل من شجّ رأسه وسالت دماؤه، وقد أجمع السجناء على أنهم لم يروه عابس الوجه إلا في تلك الأيام المكفهرة الباردة الغزيرة الأمطار، ولكنه استعاد مرحه فوراً عندما أتى أول يوم مشمس، وترك مكتبه، واختلط بالسجناء المتسكعين في باحة السجن، فتجمعوا حوله، واشتكوا إليه سوء أحوالهم، فأنصت باهتمام لأصواتهم المتذمرة الحانقة، وقال لهم بعد أن خفت ضجيجهم إن أحوالهم في السجن ستتحسن حالما يستغلون ما وهبه الله لهم من قدرات على التخيل.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم يعيشون في عالم بلا سجون، فتخيل السجناء أنهم طلقاء يتسكعون بخطى متمهلة في شوارع الكرة الأرضية هازئين بالراكضين إلى أعمالهم.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم أغنياء، ولدوا أغنياء وسيموتون أغنياء، فتخيل السجناء أنهم أصحاب بنوك وطائرات ويخوت وقصور مكتظة بالنساء الجميلات والمحاسبين الماليين.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم جالسون في المقاهي يدخنون النراجيل ويثرثرون بلا هموم، فتخيل السجناء أنهم يتمطون بتكاسل في حمامات السوق.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم قد تزوجوا أجمل النساء، فتخيل السجناء أنهم اختاروا زوجات شبيهات بسعال يختتم بدم.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم أطفال صغار هاربون من مدارسهم، فتخيل السجناء أنهم أطفال يتصايحون ضاحكين وهم يقطفون المشمش فجاً من أشجار غاب حراسها.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم ولدوا من جديد، آباؤهم مليونيرات وأمهاتهم ملكات جمال أو راقصات، فتخيل السجناء أنهم ولدوا ثانية صماً بكماً عمياً.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم يتنزهون على ضفة نهر، فتخيل السجناء نهراً أزرق يسبحون في مائه الصافي من دون أن يخلعوا ثيابهم.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم يتفرجون على حمير غاضبة تنهق وتتبادل الركلات، فتخيل السجناء أنهم ذيول مرحة لحمير تمضغ طعامها واجمة.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم طيور بيض تحلق في سماء زرقاء، فتخيل السجناء أنهم طائرات حربية قادرة على إحراق كل الحدائق.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم جياد تفوز بالجوائز الأولى في كل السباقات الدولية، فتخيل السجناء أنهم جياد مستلقية على سرر المستشفيات الراقية يحيط بها الأطباء والممرضات وباقات الورد.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم مغنون ظفروا بإعجاب الملايين من الناس المستعدين للاستشهاد في سبيلهم، فتخيل السجناء أنهم جمال شاردة في صحارى.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم كتب فكاهية تضحك وتسلي، فتخيل السجناء أنهم كتب صفحاتها بيض بغير كلمات.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم جنود يحتلون مدناً ويستولون على ثرواتها الطائلة، فتخيل السجناء أنهم جنود احتلوا المدن الغنية ليستولي قادتهم على ثرواتها تاركين لهم الخبز اليابس والنساء القبيحات.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم نيام، وسيستيقظون صباحاً ليجدوا أنهم في بيوتهم، فتخيل السجناء أنهم نيام في حفر، ويوشك التراب أن يهال على عظامهم.
واقترح مدير السجن على سجنائه أن يتخيلوا أنهم جالسون حول مائدة طولها أميال وعرضها كيلو مترات، ويأكلون أشهى ما في العالم من أطعمة متنوعة، فتخيل السجناء أنهم يلتهمون مدير السجن ورجاله من غير طهو، ويتلمظون إثر كل لقمة، وتخيل مدير السجن أنه قد قطع رؤوس كل سجنائه، واستمتع برؤية أجسامهم تترنح وتتطوح متعثرة ضالة من دون رؤوسها، وتخيل السجناء الأرض قد ابتلعت كل ما على سطحها، ولم تترك غير السهول والبحار والأنهار والجبال والأودية والصحارى، وناموا في الليل النوم العميق، ورأوا في مناماتهم أنهم خراف سمينة يباح لها الهرب إلى حيث السكاكين المسنونة تنتظر الحناجر.

زكريا تامر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حمدون الخبير المملكة المغربية:

    رائع يا أستاد زكرياء ،وسلم خيالك الواسع الدي يتسع لكل ماهو جميل ،وصدقني ان قلت لك أنني أحب كتاباتك حتى النخاع والله يحفظك ويرعاك .

  2. يقول موسي صالح ...السودان:

    صدقني مافهمت اي شئ منما اردت ايصاله…

اشترك في قائمتنا البريدية