تشكل عتبة عنوان هذا الكتاب «لا أريد لأحد أن ينقذني/ من يوميات الثورة السورية»، للشاعر السوري عارف حمزة، لسان حال آلاف السوريين، وقد وجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة موت فُرِضَ عليهم أن يخوّضوا فيه، وأمام هذه العتبة يتساءل القارئ: هل سيقع الكاتب، أيّ كاتب، في خضم اللغة المباشرة، والأسلوب الخطابي، الذي غدا معادلاً موضوعياً (بتعبير ت. س. إليوت) لكثير من النصوص التي تنشغل بــحــرارة الــيــومــي: الوطني والاجتماعي. أم أن الكاتب سيترك الحالة الانفعالية الأولى، التي غوّلها الجرح المتنامي؛ لينفذ نحو جوانبه الإنسانية الأكثر حفراً؟
حكائية الهرب من عيون الأمهات
يبدو هذا الكتاب في جوانب كثيرة منه كتابَ حكايات يشتغل على ثيمة الوجع، ويوثق مشاهد الألم السوري، مقدماً إحدى صيغ التفسير، التي يتفارق فيها الأدب عن العلوم والفنون الأخرى، غيرَ أنه من الملفت أن أصحاب المأساة، يلوذون بالصمت، ينقل إليهم المعزّون جانباً من المشاهد الأخيرة لراحليهم، عبر حكايات يسردونها عن أحبة طحنتهم آلة القتل اليومية، فالأم أوصت من يريدون أن يتعرفوا إلى جثة ابنها، أن ثمة «شامة» بين عينيه، غير أنهم لم يجدوا ما عدَّته علامة يتسم بها ابنها:
«كنا نريد أن نبحث عن الشامة الصغيرة، كما أوصيتنا بين العينين.
أن نقبّلها ونلثمها كما أوصيتنا. وقضينا هذا الوقت الطويل بسبب البحث عن العينين».
العيون في هذه النصوص ترقب وتلمع وتسجل مشاهداتها، لا قدرة لها على دفع الأذى عن ذاتها أو من حولها، لكن لديها قدرة على التوثيق، ورغم كل المحاولات لإطفائها إلا أنها تحافظ على ضوء؛ احتار من يشاهده من أيّ جهة هو آتٍ:
«هو من التماع النظرات الأخيرة للعيون
هذا الضوء الذي يبرق على الأقواس
ليس من التماع الفؤوس التي تنهال عليها».
أما الأطفال في نص آخر فيراقبون السكاكين النازلة على رقاب أحبّتهم، يتلعثمون بـ»بَوْلهم»، يتساءلون عما يفعله الكبار، لا يعرفون عن دوافعهم شيئاً، يحملون أسئلتهم في عيونهم التي لا تريد الانطفاء.
جغرافيا الجسد البشري
شكلت وجوه وأجساد الفنان لؤي كيالي في الثقافة البصرية مَعْلماً ملفتاً في عبور الجسد البشري من حالة الإهمال إلى حالة التعبير، وصارت علامة فارقة في القدرة على أسْطرة وجع البسطاء، فاحتضنت الطبيعة، في «لا أريد لأحد أن ينقذني»، أجزاء الجسد البشري وقد تناثرت على شوارعها وأزقتها وأعشابها. إذ يقف الكاتب مصاباً بـ «التلعثم الإنساني»، مذهولاً أمام تفتيت الجسد البشري وتحويله إلى أجزاء متناثرة، تدهشه فكرة أن من يقوم بهذا التفتيت للجسد. سيذهب مساء إلى بيته ليضمَ جسداً آخر هو جسد طفله، يحمله إلى سريره، لا يلجأ إلى فكرة الإدانة المباشرة للفعل أحياناً، بل يتأمل قدرة الإنسان «فاقد إنسانيته» على خلع عتاد القاتل والتحول إلى ثوب الأب:
«فليحضنوا أطفالهم
فليفرح القتلة في راحتهم
أرواح أطفالنا تمسك حديد السياج
الذي يفصلهم عن الحياة».
لا تؤيد تلك الثيمة النصية وجهة نظر»جلجامش» في رغبته بالبحث عن لحظة خلود، تتخلى فيها عن هامشيتها، لكن تتساءل عن أسرار المتعة في تفتيتها: أهي «قربان» للأحياء يبددون من خلالها ليل وحشيتهم؟
تفتت فكرة الوطن
تتميز «الأحداث العظيمة» في التاريخ البشري بقدرتها على تشظية المقدسات، ودفع الأفراد والجماعات إلى إعادة النظر بالثوابت وغربلتها، ولعل هذا أبرز ماقامت به «القيامة» السورية المعاصرة، التي لم تترك تفصيلاً في الحياة السورية والإقليمية وجوانب عالمية دون أن تضعه على محك المساءلة. أخرجته من دائرة اليقين والنمطية والموات المؤقت نحو حياة التغيير، وقد تصارعت قوى تاريخية و»لا تاريخية» في إعادة تشكيل فضاء جديد. فما يراه الكاتب بعينيْه هو «غليان هويات قاتلة ملعونة» بلغة أمين معلوف، حاول هذا الشرق بمفهومه «الغائم» للدولة أن يتركها مختفية تحت براقع ملونة:
«لا يشبه شخصاً عزيزاً عليّ
أو لم يعدْ
عزيزاً عليّ
العصفور، من جهته، يثبت قدميه قبالتي على سلك النحاس الثخين».
يسعى الكتاب في مواطن كثيرة منه للتعبير عن لحظات الوجع الأكثر مرارة: (الاعتقال، القتل، المجازر، الدبابات، القصف، التهجير، النفي)، يأخذ بعض تفاصيلها ليثبت جانبها الإنساني في لحظة تشابكه مع وجع الذات الكاتبة، غير أن نصوصاً عدة تأتي أقصر باعاً مما توخاه الكاتب. فقد أمسكت فجائعية الوجع بتلابيب لغته فأمدّت الكثير من النصوص ردة فعل على المشهد أكثر من كونها فعلاً، فأنتج ذلك الكتابة في الدرجة «الصفر» بتعبير رولان بارت، فكارثية المناسبة كانت أكبر بكثير من قدرة الحالة النفسية على إفراز لغة منزاحة عن توصيليتها.
حاول الكاتب أن يركل الأحداث إلى الأمام ليقبض على لحظات محددة من وجع العاجزين عن الفعل، وهم يصْفِقون أيديهم ببعضها، يلوون رقابهم، معبرين عن انعدام قدرتهم على الفعل أو رد الفعل، فيغدو مطلب الموت حاجة ملحة لا يمكن العثور عليها، نظراً لأن من يمكن أن يقوم به هو ميت آخر، فَقَدَ إحساسه البشري وغدا جزءاً من مشهد يبدو أنه شخصه الرئيس، وما هو إلا أداة بيد القاتل/الطاغية، يرسم له أدواره التي يمكن أن يقوم بها، فتتلاقى مطالب القاتل مع القتيل:
«لا أحد يلتفت لما يشتعل
لا أحد يلقي علي نظرة
لا أحد يقتلني».
محاولات للإيغال في الحياد الإنساني
تبدو مقولة بول ريكور في حديثه عن «الغفران الصعب» مقنعة في سياق الحدث السوري، فحرارة الدم المراق في كل مكان، لاتزال تغلي في رؤوس الضحايا ومن يمثلون. ولعل «الفداحة القصوى للجرائم هي التي تبرر بشكل أساسي ملاحقة المجرمين من دون تحديد زمني» لأن للأموات أصواتهم، وللأحياء كذلك، فهم يملأون الفضاء، ولا يمكن تجاهل أصواتهم التي حاولت الهويات الناشئة تغييبها، قد لاتجد من يكترث بصوتها، لكن ذلك لن يثنيها عن الإعلان عن صوتها:
«الأموات أيضاً يطلبون النجدة. أستطيع أن أرى الأيدي وهي تخرج من القبور
من برادات المشافي
من تحت حجارة الأبنية التي انهارت
ثم أراها كيف تتعفن من القسوة والإهمال ولا أحد يفهمها».
ها هنا يحضر صوت أمل دنقل العالي في قصيدته الشهيرة «لا تصالح/ ولو قيل رأس برأس». لكن هذه الـ»لا تصالح» بقيت فترة طويلة مخصصة للآخر «العدو» الذي تقلّ معه المشتركات، وإذ بالسوري يتفاجأ بانكسار كل شيء دفعة واحدة، ليكشر «الآخر»، شريك اللغة والجغرافيا والتاريخ والدين عن أنياب «مواطنة مخلوعة» أبشع بكثير من ارتكابات الآخر الخارجي، في لحظة اختلطت فيها الرؤى والخيارات.
يحاول حمزة في مواطن عدة من هذا الكتاب، أن يضع عينيْ ابن الأربعين جانباً، ليستعيد عيني الطفل «الجزراوي» الذي تدهشه الآلات الكبيرة والأسواق المكتظة، يتغاضى عن بشاعة ما يحدث ليندهش بالتنوع وغرابته، يريد أن يخلع ثوب المعرفة المسبقة ليسير مع الطفل الذي ينظر إلى الحرب كأنه يشاهد فيلماً، قد يفقد فيه كل أحبته، لكنه يبقى مشغولاً بلقطة يأخذها بجانب دبابة، يتوهم للحظة، أو يريد أن يصدق أنه سيراها لمرة واحدة فحسب:
«نحدق طويلاً في الدبابات التي قصفتنا
ونرمي لها فتات الخبز
سنسمعها وهي تنشج كأخت عادت مع أطفالها الأشرار إلى البيت».
يومياتٌ تبحث عن خصوصيتها
من الصعب على متلقي هذا الكتاب، لو كان مطلعاً على تجربة حمزة، أو مشغولاً باشتراطات خطابية النص، أن يعدّه من أفضل نصوصه التي كتبها. قد ينجو الكتاب في مواطن كثيرة من الوقوع في أسر الخطاب الانفعالي، لكنه لم يستطع التخلص من تبعات المباشرة، ومألوفية الطرح، بحيث بدت الدهشة مطلباً «عزيزاً» بات على القارئ أن يفتش عنه طويلاً، رغم محاولات الكاتب في إيجاد تفسير جديد لبعض الثيمات، إذ: «كلما عثروا على جثة مجهولة الهوية يقول قلبي: إنه أنت. إنه أنت».
وكذلك فإن:
«اللجاة ليست صحراء
والحجارة السوداء ليست هواء مالحاً ألفه الغساسنة
من شوقهم للبحر».
وفي الوقت نفسه كان الكاتب حريصاً على محاربة الموت الذي يملأ الفضاء بإشهار الحياة في وجهه، والبحث عن علامات في أوجه الموتى تجعل القاتل يصاب بالخوف من التماعات ترفض الدهاليز المغلقة، وتقاوم الانغلاق بالتنوع والتعدد وهي تدرك بالتالي ذوبان «الحجة الكاذبة القائلة بتلاشي الانتقام العام تحت التأثيرالآلي للزمن»، بتعبير ريكور.
عارف حمزة: «لا أريد لأحد أن ينقذني/ من يوميات الثورة السورية». دار الغاوون، بيروت، 2014.
240 صفحة.
أحمد جاسم الحسين