علينا أن نحتفل بالثورة… ولكن؟

حجم الخط
2

مرت سنوات طويلة على تلك الحادثة التي لم تغادر الذاكرة، عندما وقف أستاذ قدير في قاعة المحاضرات يتحدث عن تجربته مع الأخبار، بعد أن عاد من رحلة سفر وتفرغ لمراجعة الصحف التي تراكمت خلال فترة غيابه، وكيف أنه لم يشعر بوجود اختلاف كبير وكأنه لم يغادر ولم ينقطع عن الأحداث لفترة من الوقت بدت، في ظل ارتباطاته الخارجية الموازية، وكأنها طويلة، وفي ظل غياب التجدد وكأنها لحظة قصيرة في عمر الوطن. 
بالطبع لم يكن التعليق خاليا من معناه الفلسفي، لأن الأشياء تتغير مهما كان السطح ثابتا، أو شبه ثابت حيث تولد حياة وتنتهي أخرى، تزيد معاناة البعض وتتحسن أوضاع البعض الآخر، تنتهى عداوات وتبدأ صداقات، وتتغير مشاعرنا وأفكارنا كما هي سنوات العمر وملامح الزمن.
كان المعنى المباشر مرتبط بالطبع بالحياة السياسية، وكيف أن المشهد يبدو ثابتا بدون تغيرات تذكر مهما كانت زحمة الأخبار والكلمات وساعات البث واللقاءات، وضع ارتبط بدوره باستمرار العديد من الأسماء المعروفة في مواقعها على مدار سنوات، أو تواجدها في المشهد بصور مختلفة على مدار عقود. ولكن، أحيانا تبدو الصورة أيضا متناقضة، حين يكون الثبات جزءا أساسيا من مشهد يبدو وكأنه في حركة مستمرة وتغيرات متعددة، خاصة إن تمت مقارنته بفترات سابقة، تمت معظم تفاعلاتها في الغرف المغلقة، وبعيدا عن أعين الرصد الافتراضية والحقوقية وغيرها من الصور التي تنافس احتكار السلطة للمعلومة عبر العالم، وتركز الضوء على مساحات سوداء ترغب السلطة، خاصة عندما تغيب المحاسبة، في التجاوز عنها وتناسيها والإلقاء بها في مقابر الذاكرة.
وإن كان متتبع الأحداث عليه ان يفترض أن التغيرات التي شهدتها مصر عديدة على مدار العقود الماضية، فإن الاقتراب من جوهر التغيير قد يصل إلى نتائج مختلفة أو معقدة وغير مؤكدة، إن أردنا الالتزام بالمنهج العلمي، والتأكيد على ضرورة إخضاع كل الأشياء لدراسات موضوعية جادة. ولكن، مع التبسيط، يمكن أن نبدأ من الناحية الشكلية بالقول، إن مصر تغيرت خلال عقود، وتغيرت مرات مختلفة خلال السنوات الأخيرة مع تزايد خطاب التوريث وجهود الرفض وصولا إلى ثورة 25 يناير وما بعدها، حيث تظل 25 يناير نقطة مهمة للحديث عما قبل وما بعد، رغم كل محاولات إزاحتها من الصورة. تغيرات لم تغير الجوهر أحيانا، وربما أحدثت تغيرات سلبية بحياة المحروسة وناسها، أو عمقت تلك التغيرات ومعها الطبقية والتهميش والتساقط من حسابات الدولة في مناطق عشوائية وشوارع لا ترحم وخدمات ضعيفة أو غائبة.
بدأت الحياة مع ثورة 25 يناير أكثر عمقا من السطح، وبدأت صور المحروسة المتعددة تظهر واضحة، بعضها كان أشد قبحا من التصورات المسبقة، وبعضها كان أجمل من كل التصورات. واستمر الصراع دائرا بين القبح والجمال بدرجاته، مشاهد تثير الغضب ومشاعر اليأس، وأخرى تؤكد على وجود تلك البحيرة السحرية القادرة على تغذية الأمل كلما شارف على الجفاف بحكم الواقع وتطوراته. كل تلك الأسماء التي ظهرت فجأة من أجل الدفاع عن المتحف المصري، والدفاع عن ثوار آخرين تم قمعهم بوحشية، أو عن مصابين وجرحى لم يهتم بهم أحد، وتذكر الشهداء ودعم الأهالي… كانت الصرخات فوق قدرة البعض على التحمل، حيث سرب الحمام الذي لا ينتهي، كما أكد الشاعر نجيب سرور، وكانت إحساس حياة للبعض الآخر، وتأكيد اهتمام بوطن شعر بأنه مهمل لفترات طويلة. كانت يناير وستظل فارقة، غابت معها وجوه وعادت، وظهرت معها وجوه لا ترغب في الرحيل، ورحل البعض للأبد، وتغيرت حياة الجميع بصور وأشكال مختلفة، وعندما نقف أمام ذكرى 30 يونيو علينا أن نتذكر 25 يناير ومعها تناقضات الواقع مع أهداف التغيير.
يقال إن ثورة يناير أنهت نظاما، وتحاكم على أنها فعلت وفشلت، ولكن الحقيقة أن النظام لم يرحل، والأسماء التي سارت في الشوارع الجانبية هروبا من المواجهة والمسؤولية، وابتعدت عن الشاشات، وطردت من بعض الأماكن بسبب دورها في تجميل النظام المراد إسقاطه وتبرير وجوده، عادت كما كانت قبل يناير إلى واجهة المشهد، وسيطرت عليه بدرجات تتجاوز أوضاع ما قبل. حتى الاسماء التي تم الاستغناء عنها خلال الطريق بعد 30 يونيو عادت إلى المشهد بعد أن تم استبعادها من النظام ومؤسساته، على هامش الاحتفال بالذكرى الخامسة، من أجل هدف أساسي، إلى جانب التأكد من تذكر أهمية معرفة «تزغيط البط» وعدد «حزمة الفجل»، وهو تأكيد أننا «فقرا قوى»، وكيف كان يمكن أن يأكل المصري «الطين» لولا العطف والإحسان الخارجي الذي يُطلق عليه دعم، ولا يتم تعريف أوجه تقديمه ولا أوجه إنفاقه ولا حساب المقابل الذي يدفعه الوطن بشكل مستمر من أجله، ومعه غياب المكانة والاستقلال، في وقت يقف المواطن في خلفية المشهد، مثل الجموع في الأفلام «الكومبارس»، حين يُطلب يتم تعظيمه والإشادة به ورشادته وصبره، وحين يفرض عليه المعاناة والقبول بالأمر الواقع وتقليل عدد الأطفال، تتم إضافة صيغ التهديد إلى خطاب الفقر والحاجة وعدم الرشادة والحاجة إلى لجان إخلاق تعيد إصلاح المواطن، حتى يتناسب مع مقتضيات السلطة ومن حولها.
يتجاوز المشهد العبث والكوميديا السوداء بمراحل، ما بين عودة اسم مغضوب عليه من أجل تكرار حديث الفقر، وافتتاح قاعة للمناسبات والاحتفالات في قصر الاتحادية، القصر الجمهوري، واحتفال الرئيس بعيد ميلاد وزير الخارجية الفرنسي أثناء زيارته، بعيدا عن أن تكون هناك أهمية في اللحظة للدولة التي ينتمي لها السفير المحظوظ، الذي نال احتفالا لا يحصل عليه غيره في العادة في قصر الرئاسة، وعلى حساب الشعب المضيف، الذي يؤكد له الجميع وعلى مدار الساعة أنه فقير للغاية، والتي تبدو بوصفها مفارقة مهمة في تفاصيل المشهد بغض النظر عن التكلفه التي لا تعلن مثل غيرها، رغم أن الشعب أيضا يحتاج إلى أكثر من «لفتة صداقة» يبرر بها احتفال عيد ميلاد يدشن حدثا قد لا يكون الأخير مثل مؤتمرات الشباب الشهرية.
يبدو الاحتفال بعيد ميلاد وزير من دولة يفترض أنها ديمقراطية، ويحاسب فيها المسؤول عندما يحصل على هدية تتجاوز مبالغ محددة، وفقا لقوانين البلد الذي ينتمي له، ولا يحق له استخدام درجات متميزة في رحلات السفر الرسمية، وقد لا يشارك المسؤول في بعض الأحداث الخارجية بسبب التكلفة التي على الموازنة العامة تحملها، وغيرها من القيود بوصفها صورة معبرة من مشهد ساخر يقوم المخرج فيه بالاعتماد على المفارقات من أجل توليد الضحكات، تماما كما حدث في برامج كثيرة بعد ثورة 25 يناير باسم الوطن والمواطن، واختفت مع الوقت باسم الوطن والمواطن أيضا، عدا البعض الذي اختفى بحكم قراءة المشهد المتغير في مرحلة مبكرة، أو تراجع مع ضغوط الواقع، حيث الديمقراطية كلمة مفتاحية في الظهور والغياب.
يتصور البعض أن التجاوز عن تلك القواعد من شأنه أن يقدم رسالة للعالم أن مصر أفضل، وللمواطن أن الأوضاع تتحسن لدرجة الاحتفال بعيد ميلاد وزير خارجية أجنبي وتغطية الحدث عبر ساعات ممتدة من الإلهاء وتفريغ الطاقة ومعها الموارد، بعد أن فشلت السجادة الحمراء والمؤتمرات، واستضافة أحداث داخلية وسفريات خارجية متزايدة، في تأكيد رسالة الإنجازات وتجسير الفجوة بين غياب الرشادة في الإنفاق وخطاب «مش قادر» و»فقرا قوي». 
لا يتوقف الاحتفال بذكرى 30 يونيو عند حدود تأكيد التناقضات المستمرة بين خطاب النظام للشعب وسلوكه، ومعه شعارات ثورة 25 يناير والواقع، وامتد إلى نقطة شديدة الأهمية للسلطة وشرعية الوجود والسلوك، ممثلة في حديث الأعداء وأهل الشر الذي شهد تطورات بدوره مع الوقت، وتم التوسع فيه مرات من أجل تأكيد وجود أشكال متنوعة للعدو الذي تجب مواجهته، ويفترض أن تبرر تلك المواجهة خطاب تحمل المعاناة، رغم أنها لا تبرر الإنفاق غير الرشيد.
ولكن بدلا من الاكتفاء بحدود الخطاب السياسي لتعريف العدو وأهل الشر، وجدنا أنفسنا في مواجهة مع الأصنام، وخطاب أن أخرج من سياقه، مثل الأخبار التي عاد إليها الأستاذ الجامعي قبل سنوات، يمكن أن تصلح جزءا من فيلم يتناول ظهور الإسلام والغزوات والفتوحات الكبرى، والنقاط المحورية في تاريخ الإسلام. تحول 30 يونيو في خطاب شخصيات دينية وسياسية إلى «يوم من أيام الله» التي يجب الاحتفال بها تماما، كما قيل، مثل يوم بدر وفتح مكة ومولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع خطاب التكبيرات الضروري حتى تكتمل الصورة. تحولنا من خطاب المعارضة الذي يفترض أن يعبر عن الاتفاق على الوطن والاختلاف على السياسات، إلى العداوة للوطن باسم أهل الشر، وتوسعنا خارج عالم السياسة إلى عداء ديني يتجاوز ضرورة الاحتفال بأيام الله التي «نصر فيها عدله وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده»، وبعد أن تم تأسيس جزء كبير من انتقاد مرحلة الرئيس الأسبق محمد مرسي، على رفض استخدام الدين في السياسة، تحولت السياسة إلى دين، وبعد أن تكرر أن المسؤول يحاسب أمام الله والضمير على عكس قواعد السياسة، أصبحنا أمام لحظة يمكن أن تنقل العداء مع المعارض إلى مساحة أكثر خطرا.
يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه «من كان يحيا بمحاربة عدو ما، أصبحت له مصلحة في الإبقاء على هذا العدو»، وفي الواقع تزداد المصلحة في ترسيخ صورة العدو والتوسع فيها وتجديدها، من أجل تهميش المعركة الحقيقية، حيث من المهم التأكيد على شعارات ثورة يناير، حيث العدالة الاجتماعية التي لم تتحقق، والعيش الذي يستخدم في صراع السلطة مقابل حديث الديمقراطية والحرية التي ظهرت في قلب معركة يناير، وتراجعت بعدها مؤكدة أن الصورة التي تبدو حية لا تعبر بالضرورة عن حياة حقيقية.
كاتبة مصرية

علينا أن نحتفل بالثورة… ولكن؟

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Dinars:

    الثّورة درّت على فئة دون أخرى كما رسّخت الفقر وزادت في التسيب. . .
    ومع ذلك يبقى التغيير سُنَّةكونية تُزَال بعدها الطفيليات والشوائب لأن الطوفان المدمر للحياة في ظاهره تُبعث على إثره حياة مغايرة لما قبل الطوفان.

  2. يقول موناليزا مصر:

    لا غرو أن ثورة الثلاثين من يونيو أحدثت صدمة عنيفة تجاوزت حدود الشرخ الديماغوغي ما أسفر عن حالة من اللوثة الاندفاعية التي تجلت مآلاتها في قراءات معوجة للأحداث الجارية وهو الأمر الذي تشابكت فيه حكايات أعياد الميلاد بالمراسم الجنائزية في طورها المتهافت على الانكار.

اشترك في قائمتنا البريدية