يحاول الشاعر عماد الدين موسى عبر تسعة وعشرين نصاً شعرياً أن يقدم للقارئ شواغل دلالية وفنية دفعته للتعبيرعنها شعراً، وتتوزع تلك الشواغل بين ثيمتين رئيسيتين من جهة الدلالة، الأولى: العلاقة مع المرأة بصفتها حبيبة، والأخرى العلاقة مع العالم بصفته شريكاً، ناعم الحضور. ومن الملفت في خطابه الشعري أنه يقدم الثيمة الأولى في كثير من الاستقرار، في حين أن الثيمة الثانية تنتابها رعشات من القلق ومناوشات وجودية هادئة، وتبرز كذلك السردية في ثنايا نصوصه، متواشجة مع صور فيّاضة بالبلاغة الأقرب لـ «الكلاسيكية».
عتبات لا تنبئ عما خلفها
تقدم الكثير من الصور البلاغية يقيناً كانت تحبذه السياقات المنشئة لها، وتعده خصيصة جمالية، من هنا فإن الكثير من النقاد الفاعلين قديماً في حركة النقد والبلاغة العربية رحبوا بالتشبيه أكثر من ترحيبهم بالاستعارة؛ كونه يقدم خطاباً يقينياً يتماهى مع دور معظم هذا الشعر وجمالياته، أما في الكثير من تمظهرات النص المعاصر فإن هذه اليقينية غالباً ما تهِب النص الشعري حمولة إيديولوجية وتوصيلية فائضة عن حاجته، كون السياق الحاضن لها يعيش هو الآخر حالات من القلق. لكن الشاعر في هذه المجموعة يعاند الكثير من سياقاته، لنتأمل، على سبيل المثال، عنوان المجموعة الشعرية: «حياتي زورق مثقوب» ونتساءل: ماذا ترك الشاعر لمتلقيه كي يبحث عن فضاءات جاذبة تدفعه للتواصل مع نصوص المجموعة؟ إلا إن كان القارئ راغباً بالإقبال على قراءة نص يمتلك كل هذا اليقين في الإجابات، وبالتالي سيقرأ نصاً سكونياً لا يثير الأسئلة ولا يفرّخ الحوار، وهو ما ينافي السياق المعاصر، الذي أنتجت فيه النصوص. ولا يقف مثل هذا الإشكال مع عتبة المجموعة فحسب، بل يصل إلى عناوين عدد منها مثل «حبُّك على الأبواب كزائر لا يمل»، و»فاكهة العزلة»، و»قُبل القطارات»، و»لا يزال الليل نائماً في ثيابك»، و»فصول أخرى للسنة»، و»ماءٌ قليل كصدى أغنية بعيدة»، و»عاشق بسيط»، و»السنوات التي كالسنونوات تأتي وتذهب متى تشاء»، و»ريثما يصل بريدك». كان يمكن للكثير من تلك العناوين أن تمر، لو أن الخطاب الذي تبعها يحمل ألواناً من الدهشة التي ينتظرها المتلقي من النص الشعري.
مفردات الوجع السوري
اكتسبت مجموعة من المفردات/العلامات في الخطاب الصحافي والكتابي والفني في الشهور الأخيرة خصوصية باتت تمس حياة السوري في السنوات الأخيرة، ولا يمكن للمتلقي أن يترك تلك المفردات أسيرة انتمائها للمعجم اللغوي فحسب، لأنها اكتسبت دلالات جديدة. من هذه المفردات الواردة في نصوصه: الماء، القطارات، خطوات السمك، القبطان إذ يتوارى، المرفأ؛ إذ ستحثُّ المتلقي على البحث عن دلالتها وآليات توظيف الشاعر لها، وقد فعل ذلك، بعيداً عن اللغة التوصيلية المباشرة التي لجأ إليها بعض الكتاب، ففي نصه المعنون «القبطان..إذ يتوارى» يكتب: «أيتها الأسماك/السنونوات/ أيتها الأعشاب اللامرئية مثل أيامنا/ إليّ/ إلي بالبحر/ بجسد بحيرة ضاقت ذرعاً بمياهها/ أنا النقشبنديُّ الذي أودع الكفن، خزانة الحياة/ أهبط الوادي/ قبّرة قبرة/ وأقود غيومي الشريدة/ تاركاً القمر يمارس النسيان بعد مرور كائناتي به».
أمام جبروت البحر، الذي أكل الكثير من أحلام السوريين وأجسادهم، يقف الشاعر غير قادر على التواصل معه بغير لغة المتصوفة، التي عايش الشاعر بعض فصولها بعيني طفولة ابن مدينة «عامودا» السورية، الذي كانت تدهشه «حالات المتصوفة» وهم يغمدون قضيب الحديد في أجسادهم، أو يمسكون المدفأة المشتعلة بأيديهم، يندهش أولئك الأطفال الذين يسترقون النظر، حيث سيمضون ليلهم بأحلام لا تبتعد كثيراً عن أحلام عباس بن فرناس في الطيران، يهملون وظائفهم الدراسية، لعل قدرة روحية تشبه قدرة من أمسك المدفأة تريحهم من عنائها، لعل قدراً خاصاً يوصل أحلامهم إلى ما يريدون دون عناء. فكيف إذا ارتبط ذلك بمغامرات خارقة يصفق لها الجمهور بكلمة «المدد» من كائنات أطعمت أرواحها في أرواحهم عبر «طرائق» لها خصوصيتها، فصاروا جزءاً من الآلهة ذات القدرات الخارقة. أين تلك الأسماك من تلك الطرق: المددُ! المدد! إليّ بالبحر، يا هذا الشاعر، الذي رأى بعينيه كيف يتبعثر الحلم السوري خطوة خطوة، تضمحل أحلام السوريين، التي بدأت كبيرة ومزلزلة قبل سنوات، ليغدو حلم كثير منهم أن يكون «المدى الزمني» للقاتل محدوداً فحسب، لا يريدون للقتل أن يستمر، يتساءلون: هل من مدى زمني لانتهاء المجزرة؟
يوجه الشاعر خطابه إلى الموجة بعد أن يفقد الأمل بحضور «المدد»، يبحث عن مشتركات بينهما، لعلها تتناص مع وجعه، فتمنحه دلالة جديدة:
«أيتها الموجة
أيتها الموجة..
التي
ربما
دفعتها الريح لارتكاب هكذا حماقة
ها أنا ذا أغرق
وكذلك أنت
وما من مرفأ».
غدا انتظار المنقذ في البحر ضرباً من انتظار ما لا يأتي، ومن مفارقات الحياة المرة أن يغدو الحل بمحاورة تلك الكائنات البشعة، لعلّ لغة مشتركة تولد بين قاموسيْ القاتل والضحية، وربما سيجد الشاعر خطاباً فلسفياً أو رؤيوياً يجمعهما، أو تولد دلالة جديدة، فيمنح الشاعر الموجة الفرصة كي تخلع ثوبها وتستبدله بثوب جديد، فيه رائحة الإنسانية.
نساء بثمار كاملة
في الوقت الذي يقدم فيه الشاعر خطابه القلق على المستوى العام، يسود خطابه الشعري الكثير من اليقين، إبان الحديث عن المرأة، التي لا تزال تحمل أثمارها بانتظار أن يقطفها الرجل، ويخرج ضوع روائحها من السرير. فهي قمر دائم الإشراق، وحبّها في الصيف برد وفي البرد أشدّ من الحب، وكلما ذبلت تفاصيل الحياة تتقتح بحضورها، فالعصافير لن تخطئ البيت من حضور عبيرها، أما يدها على حبل الغسيل فتشبه طائراً دورياً يبحث عن حبات قمح في الصباح. يمنح الشاعر أكثر من نصف نصوصه للحديث عن مسارات علاقة الرجل بالمرأة عبر خطاب العشق الذي يتعثر بعثرات عدة أبرزها «الذهاب إلى الحب دون رتوش أومكياج»، حيث يكون الشاعر أعزل إلا من الحب، كي لا يندم، وهو يذهب أحياناً لأجل لا شيء، وأحياناً كمن تذكر شيئاً ويريد نسيانه، خاصة أن الشاعر ينسى كل شيء ـ كما يرد في المجموعة ـ كي يتذكرها، وهذا طبيعي من كائن لا يتقن الحياة بل يفنى ببطء فـ»الشاعر يزول»، والشاعر العاشق يقف في الانتظار كالمحكوم بالإعدام.
غير أن حضور المرأة يكون، أحياناً، حضوراً جارفاً، بحيث لا بد أن يغيب الشاعر إنْ حضرت هي، نوع من الفناء الذي يفترضه حضورها، فأصابعها كانت سبباً في فقدان أصابعه، وحين يلمسها بصفتها عامل إشعاع حياتي يتوسَّد قبره، لأن ثمة حياة أخرى تنتظره، و»حياتي التي أجهل أنها حياتي تسبقني إلى حتفي». فهو «عاشق بسيط» يعيش في إطار ذكر الحجر الأول الذي تعثر به حباً، محاولاً أن يدفع العتمة عن دروبه بالحب، وأن تضيء عوالمه مياه الآبار التي يقع فيها. تقدم الكثير من نصوص المجموعة خطاباً خالياً من «الفحولة الشعرية»، التي تشكل أحد أنساق الثقافة العربية الراسخة، يوشحها الشاعر بنسمات من رومانسية غائبة، تجد ضالتها في يقين الطبيعة، التي تمدّه بأسباب نسيج شعري خال من تشتت الدلالة.
مفارقات تبحث عن جدواها
تتكئ كثير من نصوص هذه المجموعة على المفارقة بهدف صنع شيء من الدهشة، أو الخطاب المفارق للخطاب الإخباري، وتبحث تلك المفارقات عن هوية فنية ودلالية، وقد تتقاطع مع مقولات يؤكد عليها الشاعر في غير موضع. دفعت هذه المفارقات الشاعر كي يبني بعض تفاصيل نصوصه على مقولات سابقة، يحاول استحضارها في سياق نصه لتمنحه شيئاً من «ماء الشعر» بتعبير البلاغي العربي الحلبي «ابن سنان الخفاجي، إذ يستعمل الشاعر عدداً من الجمل الشعرية التي تحاول أن تمنح نصه دهشة ينتظرها المتلقي: «كل شيء في وقته حصرم، في غيابك مثلما في حضورك العصافير تنتف ريشها، القبلة فاكهة العزلة، السياج لا يحمي البيوت، وحدها القطط تدرك ذلك». ومن الملفت أنه في تلك المفارقات لا يبني عليها خطاباً مفارقاً ينمّ على فلسفة وجوديّة تجاه تكوينات نصه، ولا يتردّد من الهروب منها والعودة إلى الخطاب المألوف ذي البعد الدلالي الواحد. ومن تلك المفارقات: الافتراق بين الماضي والحاضر، (الأب والأبناء)، إذ يروي ابن الحاضر للأب بعض ما يحدث، يخبره عن وجعه، وكيف أنه تفارق ـ كما كثيرين ـ عن تلك الأحلام التي حمّلوه إياها، كأنه يريد أن يسوغ خلع الأبناء وصايا آبائهم، وكيف أنهم يمّموا وجوههم نحو «بلاد لا تُسمى»، رموا وجوههم القديمة قرب بحر، يرجم القوارب بأمواجه العنيفة، وارتدوا ظلالاً أكبر من مقاسات البلاد القديمة، التي تغدو أبعد وأبعد كل صباح. والشاعر يتغافل ها هنا، عبر سكونية رؤياه، عن الكثير من أولئك الآباء الذين دفعوا تكاليف رحلة موت الأبناء، أو رافقوهم، تعبيراً عن حالة من ديمقراطية الموت. فالكل يجب يتشارك في تشـــكـــيل تفاصيل مشهد الموت، ما دام هو الأمام والخلف وكذلك على الجانبين.
عماد الدين موسى،: «حياتي زورق مثقوب».
منشورات المتوسط، ميلانو 2015
72 صفحة.
أحمد جاسم الحسين