«فايق المير» او «العميم» .. من اليسار المستهلك في الثمانينيات والتسعينيات إلى الشارع الثوري

حجم الخط
0

انطاكيا ـ «القدس العربي» اعتاد أبو علي منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي على زائري الفجر، وعلى الآذان العالقة بأشرطة الهاتف، على وجود شخص ثالث بينه وبين زوجته حينما يتحادثان هاتفياً… على أحدهم يحمل جريدةً ويتبعه في شارع بطرطوس أو دمشق أو الرقة أو سواها، بصورة أقرب ما تكون إلى أنها مجتزأة من فيلم سينمائي أوروبي كلاسيكي ذو مسحة سوفييتية، حيث يلاحق المخبر فريسته بطريقة مباشرة يكتشفها كل العابرين والمخبرين الآخرين والفريسة ذاتها.
أبو علي يعرفهم تماماً، أكثر مما يعرفونه بكثير، رغم أكوام الملفات المعنونة باســمه في مختلف فروع مخابرات النظــــام السوري، لم يحتج يوماً لملــــف أو ورقة أو دليل منهجي للتعرف على مخبر، كانت صورة النظام الأمني واضحة له حد التطرف، لم يكن أبداً بحاجة إلى السجن لتكون علاقته بجلاده مباشرة، فقد كانت أكثر مباشرة في الحياة العادية من أصغر الفروع الأمنية في بلدته القدموس إلى أكبرها في العاصمة الأمنية التي تجول فيها مراراً أمام أعينهم.
كل غياباته طويلة، مذ كنا صغاراً نعرف أنه الآن يقبع خلف القضبان، نتهامس باسمه أحياناً في القرية الصغيرة، يقتصر همسنا هذا على يوم اعتقاله ويوم الإفراج عنه، بعضنا يراه بطلاً لمجرد أنه سجين، وبعضنا يراه مريضَ السياسة والمعارضة بتأثير من أهلينا الذين يحاولون مليّاً إبعادَنا عن أيِّ خطِّ تماس مع الدولة… (الدولة التي تساوي حافظ الأسد دون زيادة أو نقصان)… بعضنا بل أكثرنا يراه شخصية مشهورة من البلدة الباردة المنفية في أعالي جبال الساحل السقيم، بل وتزداد العزة به بالكنية التي يحملها لدى البعض، «المير» تلك الكنية التي تحمل تاريخ صفة قيادية إقطاعية تسكن في نوستالجيا المنطقة (القدموس)، التي فقدت كل شيءٍ بالإصلاح الزراعي والتأميم وسلطة الأمن والجيش المحيط بها من كل زاوية،…. لا ينكر الكثيرون أن إعجابهم بأبي علي هو إعجاب بـ «مير» وَقَفَ في وجه الدولة، إلا أن هذا المير لم يكن ميراً أبداً كان بالفعل «عميم»، فالعميم ذاك اللقب هو بالضبط ما نقل شخصية معارضة كلاسيكية مثل فايق المير من الصالون المغلق للنقاشات السياسية العقيمة واليسار المستهلك في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إلى الشارع الثوري الشاب بعد 2011 في سوريا فأمام انقسام المعارضة الكلاسيكية بمختلف توجهاتها من ربيع دمشق إلى منتدى الأتاسي إلى الإعلانات المتتالية بين من انبطح تحت عباءة الأسد أو من تمسك بيساريته أو قوميته متعالياً على الغليان الشعبي، ومن اتخذ من المجالس السياسية المعارضة الخارجية بوابة للنجومية والتكسب، كان هنالك قلة قليلة للغاية قادرة على التمسك بأيديولوجيتها اليسارية كانت أم ليبرالية والنزول بها إلى الشارع، أو حتى تركها بين غبار رفوف الكتب والكلام المكرر وأزمة الكهولة والشيخوخة، نزلت الأقلية تلك إلى شارع الثورة التي أسقطت كل ما قبلها… فيما كانت غالبية وجوه المعارضة «ميراً» سواءَ بالتعالي على الشارع أو التمسح بالسلطة أو تسلق المناصب، إلا أن أبو علي لم يكن إلا العميم.
العميم كما قال في لقاء صحافي حالت الثورة بينه و بين ترك البلاد بعد أن فكّر بتركها قبل الثورة بقليل، فأدرك أن ما يحدث اليوم هو ما ينتظره.. فأين سيغادر؟، وباتت الملاحقة الأمنية تفصيلاً بسيطاً في حياته، فلم تعد شيئاً استثنائياً ضمن مجتمع نصـــفه ملاحق، ومعاناة أسرته باتت جزءاً من معانة آلاف الأسر، وتمسكه بحزب الشعب بعد الثورة لم يكن إلا وليد إعلان الحزب وقوفه إلى جانب الشارع علانيةً، كان بسهولة سيتخلى عن النسق السياسي المنظم لو أن حزبه لم يفعل ذلك.. «فالمعارضة لم تعد مركز الصراع مع السلطة. بل أصبحت الثورة هي مركز الصراع» كما يقول العميم..
عام من السجن، لابد أن السجن اليوم أخف على العميم من سجون الأمس، فنزلاء الزنزانات القديمة كانوا يلتقون مع العميم برأي سياسي وأيديولوجيا وربما يختلفون معه، إلا أن نزلاء اليوم هم أبناء الحراك الثوري الذي واكبه أبو علي.. ربما عرف بعضهم في شوارع الغوطة ودمشق، وبعضهم في السجن… لا بدَّ أنه اليوم يربت على كتف أحدهم ويكرر ما قاله ملياً على «فيسبوك» وعلى مختلف الوسائل الإعلامية، بأن هناك طرفان في سوريا نظام مجرم وثورة شعبية.. ثورة رآها منتصرة ولم يعط كل ما اعتراها من أحداث وتبدلات أي انتباه.. هو ينتظر سقوط القاتل وانتصار الضحية فقط، ويعرف أن الحصى الكلوية التي طالما عانى منها، تخرج بديناميكية الجسم وتتفتّت في جسد نظيف بريء منها، وقدر تلك الحصى أن تخرج ويلفظها الجسم مع المياه العفنة في المجاري، حصاه مؤلمة للغاية لكنه «العميم» ابتسامة خلف قضبان افتقدت معناها وقدرتها على لجم رؤى المستقبل.

نبيل محمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية