فجوة الأدب العربي ـ الإبداع الفني

هل يجوز أن نقول بأن محنة الأدب العربي هي في طريقة استخدامه للغة نفسها، وليس في أي شيء آخر؟ ليس في التخيل ولا في العامل النفسي للكاتب الذي يكون عموما المسؤول الأول عن النتاج المبدع!
الأدب والفن هما الانعكاس الحقيقي لمستوى الوعي ولمستوى الذكاء البشري، وستكون اللغة، بحد ذاتها هي نظرة العقل إلى العالم. كيف ترى هذه النظرة الزمان وكيف ترى المكان، وإن اللغة هي عين الوجود ووجهه الآخر في علاقته المباشرة مع الكائن الحي.
وهي ليست للاتصال فقط، بل في المرتبة الأولى خلقا وعلاقة أنسية مع الزمن. من ناحية أخرى لولا الزمن وحركة الحياة لما وجدت اللغة، والعكس صحيح أيضا فلولا اللغة لما وجد الزمن ولا الحياة، وإن اللغة هي الحياة والحاضر، والصيرورة التي تمنح هارمونيا الوجود غذاءه وطاقته.
إن كان الكائن الحي هو أحد مكونات اللغة فإن اللغة الحقة هي تلك التي تولد بولادته، معه، هي في البيت، وليست في الكتب لكنها في باحة المدرسة، وفي شجن اللقاء بين المحبين، ولها المنازل العليا في المخيلة.
هذه اللغة هي لغة الآن وهي من تكوّن العالم وتنتج الفن والأدب، لا تمت إلى الماضي إلا بالنـَسب ولا تتصل بالمستقبل إلا بالأمل. إنها الكائن الحقيقي الذي يجب أن نتواشج معه!
مازلنا قادرين على قراءة الشعر الجاهلي وفهم لغته، كذلك قراءة كتب النثر في العصور الإسلامية الأولى، وتتبعها وتقليب صفحاتها ما يجعل البعض، وهو يقرأ تلك الكتب، أن يشعر بأنامل الماضي الرصين وهي تزحف في أوصاله وتحقن شرايينه، وتنقله إلى تلك الأزمنة، ليس من قبيل المقارنة والنقد بل من قبيل الحنين، ومن قبيل الفقدان الذي ألم بالحال مما يدفع بالكثيرين إلى الحذو حذو كتاب التراث، وإلى محاولة تقليدهم بأسلوب عصرهم بعد أن ألبسوه قناع الماضي، وهكذا سيكتب على سبيل المثال الروائي روايته، بأسلوب ذلك العصر، مفكرا بأدوات تلك الحقب البعيدة التي وصلتنا فيها أمهات الكتب العربية. يستخدمون بذلك أدوات عصر مازال حاضرا، أسلوب الجملة العربية القديمة، الرشيقة القصيرة التي لا تتعمق ولا تدخل في الهم الإنساني الحديث، هذا الهم البعيد كل البعد عن الماضي ومقدراته الآنية المباشرة التي كان تقصد ما تقول وإن تعمقت فاللمحة تكشفها والنظرة قليلة الهمة تقولها.
الذي يجعلني أدقق في هذا الأمر وأهميته القصوى في العمل الإبداعي هو عامل الحياة/ الزمن أو «الرنين» الذي هو الكائن الحي، في كل لحظة منه يعلن انسكاب جزء منه ورفده إلى الماضي، وإلى الذكرى التي لم تعد تمتلك ذلك الأثر ولن يكون لها العامل الحاسم في بناء الحاضر الآني. ذلك الرنين وتلك اللحظة هما من يخلقا ويحتويا العالم الإبداعي الذي ينظر نحو الحاضر ويستشرف المستقبل.
الخيال أو التخيل الذي هو الأداة الكبرى في العملية الإبداعية، هو ابن الحاضر وابن النفس التي تراجع أحوالها وتقرر أو ترفض ثم تصمم، هذه النفس هي النفس التي تحفظ في داخلها تيارات الشعور واضطراباته، وهذه التيارات لن تكون تيارات الثقافة ومحفوظاتها، بل هي في الأساس تيارات الواقع وانعكاساته التي تكوّن اللحظة والكائن. وهي تيارات قد تكون مشذبة عند المثقف أكثر من غيره لكنها في النهاية هي ابنة الآن وليست ابنة الماضي ولا المحفوظات المنقولة عبر الزمن. من هنا ستظهر لنا العلاقة الوطيدة بين الخيال وبين الحاضر وبين اللغة التي تعبر وتنقل لنا ما يجري في حجرات الخيال. إن اعتماد اسلوب اللغة التي استعملها الأجداد وقد ماتت في المخيلة وفقدت روحها سوف يحرف سهم الإبداع ويوهم بالإصابة، إنما الإصابة لأهداف الماضي وليست لأهداف الحاضر وهنا سنكتب أنفسنا الغابرة وهي تنظر بعيون كائن له القدرة على النقل والتعبير في حاضر ليس له ولا يؤثر به.
بين اللغة العربية التي كان الشعراء الجاهليون يستعملونها وبيننا الآن أكثر من ألف عام ونيف، ومعظم الكتاب مازال يستخدم تلك اللغة، يحلي نصوصه بزخرفتها وتراكيبها. يتتبع بذلك تركيب الجملة العربية كما خلقت منذ تلك السنوات البعيدة وبأن لا تنمو ولا تقترب من روح العصر وروح الكلام اليومي الذي به نحلم وبه نفكر. وبهذا تتشوه الحياة حيث أن اللغة المكتوبة كي تكون حية ومتلائمة مع روح العصر يجب أن يكون هناك دوما من يبث الحياة فيها ويحول بناءها- ويصونه بشكل مستمر، إلى أسلوب معاصر، يلغي ويشذب ويجتث ويزرع.
«عمد بعض الرجال المحيطين بمجلسه إلى تملقه بكلمات اطناب ممطوطة فلم يلتفت إليهم، بل نهض في هدوء. فرد سجادة، وصلى ركعتين في إطالة ظاهرة خفـّـت فيها تمتمات الشكر، وكلمات المديح» سليم بركات «فقهاء الظلام» ص 7. «نقر الباب بوجل، نقرة خفيفة خفية. لم يستعمل مفتاحه، كيلا يفجؤها أو يفاجأ هو بوقفتها السامقة التي يمكنه أن يتخيل روعتها. توقف ترنمها إذ ألفته لدى الباب» يوسف زيدان، «ظل الأفعى» ص 4.
تتميز الجملة العربية بالقصر والرشاقة وهذا يدل على غلبة النفس على العقل وفي العادة أن النظام الهرمي للبناء اللغوي هو ما يشير إلى طبيعة العقل، فالعربي من خلال ذلك البناء نقرأ عنه قصر النفس وأن عقله مبنى على التوقع والألفة «ضرب زيدُ عمرا» وحادثة داود باشا مع نحاة زمنه مشهورة وهي تدل على ضيق الرؤية من جانب وتساؤل من جانب آخر، لماذا زيد دوما يضرب عمرا». هذا الجانب السلبي لا يعلن عن كل شيء ففي القصر والرشاقة بداوة ورؤية، تخص الحياة آنذاك، ولن نكون منصفين إن وصفناها بالسلبية، فالحياة والإعمار هما واقع، والواقع لا يصح وسمه بالسلبية أو بالإيجابية، هو حياة وله طرائقه وسكوكه وإن كنا ننظر إليهما سلبا فذلك لأن النظرة التي نستخدمها تقول ذلك وليس الواقع ما يقوله، إن عقلنا هو الذي يصف ويقسم ويرفع ويحط لكن الحياة لها صيرورتها غير المنتبهة والتي تمشي طريقها من دون أن تلتفت.
المخيلة التي تخلق هي المخيلة القريبة من اليومي والقريبة من كلام الحلم، ولا نحلم في الواقع إلا قليلا باللغة الفصحى، كل أحلامنا هي أحلام يومية وكل انشغالاتنا النفسية هي انشغالات اليوم. وحين تتم مخاطبة المخيلة باللغة الفصحى فإننا سنقع في حجب الماضي ونفقد بالتالي حريتنا وحين تفقد الحرية فإن النتاج سيكون محدودا مكبلا بالماضي. كان الأجداد الذين كتبوا نبالة الشعر والنثر قريبين من الفصحى، محكيتهم قريبة إلى الفصحى وهنا جاء نتاجهم المذهل في الشعر والنثر، أما اليوم فإن محكيتنا بعيدة بأشواط طويلة عن الفصحى وهذا ما يجعلنا نواجه جدرانا عديدة ستخفي عنا الكنوز التي نطمح إلى لقياها.
إن الكتابة اليوم باللغة القريبة من اللغة المحكية هي الطريق الأقرب والأصدق لنقل المشاعر الذاتية الحرة غير العالقة بالماضي، والمتعلقة بالحاضر، وبالآمال القادمة، التي تعبر عن النفس بكل مكنوناتها، فتقدم من ذلك نتاجا طازجا من أرض حقيقية هي أرض الواقع وليست أرض الوهم والماضي. هذا النوع من الكتابة سيجعلنا نكتشف الحقيقة، حقيقة أنفسنا وحقيقة الأمل، ونعالج الوجدان ونهذبه بالطريقة السليمة الخالية من تأثير العادة والموروث. سيكون صوت هذه الكتابة هو صوت الحاضر الذي لم يكتب لنا إدراكه فيما قبل، بالقدر الذي نقترب فيه من الحاضر بالقدر الذي نرى فيه حياتنا على النحو الصحيح.

كاتب سوري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية