عقد في مدينة شيكاغو/الينوي الأمريكية قبل أيام في 27-29 نوفمبر/تشرين الثاني، المؤتمر السنوي السابع لمنظمة «أمريكيون مسلمون من أجل فلسطين» وكان شعار المؤتمر: «تنفض عن كاهلها الركام: غزة تعلم الدنيا الحياة». حضر المؤتمر عدة آلاف من أفراد الجالية الفلسطينية والعربية والمسلمة في الشتات. أُستلهم شعار المؤتمر من القصيدة الشهيرة للشاعرة الفلسطينية د. رفيف زيادة بالانكليزية، «نحن نعلمهم الحياة سيدي»، ردا على سؤال صحافي لها لماذا تعلمون أولادكم الموت في غزة.
استضاف المؤتمر عدة شخصيات فلسطينية وعربية وعالمية من المتعاطفين مع الحق الفلسطيني. ولنبدأ بالمناضل الفلسطيني المنغرس في أرضه د. أحمد الطيبي. أول ما يشدك في ملامح الرجل، طيبة متناهية مع حزم جارف، يقول ببساطة وثبات: نحن أصحاب البلاد، ويرفض مشروع يهودية الدولة. يقول لهم بإصرار أن القوانين لا تغيّر التاريخ، وإن حاولت تشويهه… يصرخ ويثور ويعاند في الكنيست، فيقولون له هذا هو الوضع هنا، وإذا لم يعجبك الحال، إرحل، يضحك بسخرية في وجوههم: يبدو أنكم لا تعرفون هذه الأرض جيدا، هل تعرفون الخبيزة والزعتر والزيتون، فيرفعون حواجبهم استغرابا، فيكمل نحن مثل هذه النباتات، متجذرون فيها للأبد.
وكما قال مناضل فلسطيني آخر، لقد حسمنا أمرنا، إما أن نعيش على هذه الأرض، أو تحتها. إنها علاقة الفلسطيني بترابه، حتى أن ملامح وجوهنا أصبحت بلون التراب، وتجاعيد وجوهنا أصبحت مماثلة لتجاعيد أشجار زيتوننا. الطيبي قال إن الشعب الفلسطيني كمثلث قاعدته الضفة وغزة وضلعه الأكبر أنتم فلسطينيو الشتات وضلعه الأصغر نحن فلسطينيو الداخل 1948. إن أكثر الأماكن في غزة أمنا أثناء العدوان هو أبعدها عن أماكن تجمع الأطفال. لقد أرادت إسرائيل كسر إرادة الشعب الفلسطيني، من خلال عملها الجبان بقتل أطفالهم، ولكنها فشلت. في النهاية قال الطيبي: كفلسطينيين نتقدم بالشكر لكل «الزعماء العرب والحكومات العربية»، الذين ساندونا ضد العدوان العسكري الهمجي الإسرائيلي على غزة، وأخص بالذكر، فنزويلا، بيرو، تشيلي، الارجنتين، بوليفيا…. وكل القارة اللاتينية.
الضيف الآخر الذي وقف له الجمهور احتراما هو الطبيب النرويجي مادس جلبرت، الذي عالج جرحى غزة طوال أيام القصف. لقد بث الأمل في نفوس الفلسطينيين، إذ قال إن بلاده مر عليها المستعمرون عبر مئات السنين، رحلوا جميعا وبقيت النرويج حرة كريمة. وأضاف أنهم لم يرحلوا طوعا، بل بالمقاومة بجميع أنواعها، وبالطبع تضمّن ذلك المقاومة المسلحة. قال: أيها الفلسطينيون، لا تيأسوا، اصبروا، أنتم تحت الاحتلال ومن حقكم أن تناهضوا الاحتلال بالمظاهرات والعصيان المدني والحجارة والسلاح، لا تخشوا من تهمة الإرهاب فقد نعتنا الألمان بالإرهاب عندما قاومناهم بالسلاح.
قصة هذا النرويجي مع القضية الفلسطينية لم تبدأ مع العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، بل منذ العدوان الإسرائيلي على الفكهاني في 1981 والاجتياح الإسرائيلي للجنوب وبيروت في 1982، كان هناك. يتذكر أبو عمار يقول له، لا نملك أن نتنازل أو نتراجع لأنها، وقالها بالعربية، ثورة حتى النصر. يقول الدكتور جلبرت إن الفلسطينيين في غزة كلهم مع المقاومة، الأطباء والممرضات والجرحى والسائقون، المهندسون والمحامون والصيادون والمزارعون، الاطفال والأمهات الثكلى، كل الغزيين. لقد توأم مدينته النرويجية الصغيرة في شمال البلاد مع غزة الصامدة. هذا النرويجي خفيف الظل يرد على القرار الإسرائيلي بمنعه من دخول غزة ساخرا بعربيته المحببة: «بكرة في المشمش».
أما الشيخ عبد الفتاح مورو أحد زعماء حركة النهضة التونسية فقال متواضعا في حديثه عن الثورة التونسية التي مهّدت للثورات العربية الأخرى: إن التونسيين تعلموا الثورة من أهل فلسطين، وقال بدأنا ثورتنا ونحن نحمل علمين، علم فلسطين بيمنانا وعلم تونس بيسرانا، والهدف الأسمى للثورة التونسية هو تحرير الأقصى.
أما ضيفة الحفل، وهي إعلامية الجزيرة المشاكسة غادة عويس فقد أخبرت الحاضرين عن تجربتها في غزة بعد زيارتها لها في أعقاب الحرب ما قبل الأخيرة 2009-2008، وأكدت على معاناة الفلسطينيين على معبر رفح من قبل السلطات المصرية انذا. ربما أصبحت المعاناة أكبر الآن أثناء حكم العسكر، إذ أن الناس ينامون على المعبر الذي لا يفتح أبوابه أبدا. مصر الآن تفتح المعبر باتجاه واحد لمن يريد أن يدخل إلى السجن الكبير، ولا خروج لمن في داخله لأي ظرف إنساني، من علاج أو دراسة أو لم الشمل أو حتى إدارة الأعمال والتجارة. تقول غادة إن صمود غزة وأهلها أسطوري. وتروي قصة الفتاة الغزية ذات الأحد عشر ربيعا، التي تتكلم كالكبار لأنها عاشرت رغم عمرها اليانع ثلاث حروب! تحدثت كثيرا عن طيبة أهل غزة وكرمهم، رغم شح الموارد والإمكانات.. وعن تعلقهم بالحياة، ولكن الحياة الحرة الكريمة، لا حياة الذل والخنوع. أختتمت شهادتها بأن صمود أهل غزة جعلها متيقنة من أنها ستزور يوما ما مدينة القدس محررة. أتذكر غادة وقد استضافت المتحدث باسم جيش «الدفاع» الإسرائيلي في أحد البرامج إبان الحرب الأخيرة على غزة، فاذا بجنابه يفتتح حديثه مهنئا بالعيد، لم تسكت: قالت له بحدة واضحة، لا تتكلم عن العيد، لقد جعلتم العيد مأتما. المراقب لمذيعي الجزيرة يلاحظ حدتهم مع الضيوف الإسرائيليين، لا سيما العسكريين منهم، وهم كما يبدو مجبرون على التحدث معهم لأن سياسة القناة هي محاورة الرأي والرأي الآخر، وهذا موضوع نختلف مع الجزيرة فيه ولكنه موضوع يحتاج للشرح، ربما في مقال آخر.
الباحث الفلسطيني الدكتور أسامة أبو ارشيد في معرض تناوله للثورات العربية وأثرها على القضية الفلسطينية، شبّه الثورات العربية بلعبة الشطرنج التي يلعبها لاعب مبتدئ مع لاعب محترف، استفاد الغرب وإيران وإسرائيل من أخطائنا لأننا مبتدئون وهم مهرة فغيروا مسارات الثورات بدون أن تكون القصة كلها مؤامرة منذ البداية. الإنسان العربي ليس أداة في أيدي الدول الغربية وافتراض المؤامرة هو تبخيس وامتهان لقيمة الإنسان العربي الذي انتفض في طلب الحرية.
إن هذه الثورات بمثابة حجر رمي في بركة رأكدة كما يقول أبو أرشيد. الدوائر حول هذا الحجر ما تزال تتمدد. المنطقة تمر في حرب إرادات، وإرادة الشعوب دائما تنتصر كما تنبأ ابو القاسم الشابي.
الفلسطينيون في الولايات المتحدة وقفوا وقفة عز لمؤازرة أهلهم في غزة غير مبالين بتهم الإرهاب التي ترميها أمريكا بوجه كل من يقف ضد الممارسات الإسرائيلية من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين ولسان حالهم يقول: الغزيون قدموا أكثر من ألفي شهيد وآلاف الجرحى وتحملوا دمارا ليس له مثيل، فهل نستكثر عليهم موقفا ملتزما يشد من أزرهم. غزة ليست وحدها، فكل أحرار العالم في الخندق معها، فلا نامت أعين الجبناء.
٭ كاتب فلسطيني
د. خليل قطاطو
مقاله رائعه تبعث الأمل في عصر الإحباط العربي . سلمت يداك دكتور خليل
تحية لكل من كان في هذا الموءتمر ،وتحية خاصة للدكتور النرويجي جلبرت،وأقول ان الدكتور قزم الحكام العرب بجيوشها وأركانها،