■ صدر مؤخراً للشاعر المغربي «يحيى عمارة» عن دار روافد للنشر والتوزيع في القاهرة، ديوانه المعنون بـ «فوضاي تكتب نثرها»، في 114 صفحة، وبغلاف للفنان المغربي محمد الشريفي. تثير الكتابة الشعرية عند عمارة الكثير من الأسئلة المرتبطة بقضايا الذات والآخر؛ يكتب يحيى عمارة قصيدته تحت هاجس ذات شعرية مثقلة بالعديد من القضايا ذات الشجون الذاتية الغارقة في فوضى الذات، تخترقها قضايا الآخر؛ بمختلف تلاوينه؛ التي يختار رسمها بعناية، محاورا فيه الأنثى والفيلسوف والشاعر. وإذا كانت الثيمة البارزة لهذه العلاقة هي ثيمة «الفوضى» كاختيار فلسفي وجمالي، اختاره الشاعر مؤطرا لهذه العلاقة/العلاقات، فإن هذا الاختيار ينبع من كونه يكتب خارج النسق؛ بحيث تغدو القصيدة الشعرية ملاذا يلتجأ إليه لممارسة غوايته المعرفية، ورفد القصيدة الشعرية بهواء جديد، وإقحام قصيدته بعديد من الرموز والمفاهيم الفلسفية، يساعده في ذلك رصيده المعرفي والأكاديمي الواسع، ولا أدل على ذلك من بوابة العنوان؛ «فوضاي تكتب نثرها»، حيث يحتفي الشاعر بهذا المفهوم، الذي نجد صداه يتكرر على مدار مجموعة من قصائد الديوان: فوضى الذاكرة، فوضى الطفولة، فوضى القصيدة، فوضى قاسم حداد، فوضى الحدائق، فوضى الغزال، سفر على فوضى الروح، فوضى اليمام، فوضاي تكتب نثرها، فوضى الماء، ما يوحي بأن الشاعر واع بهذا الاختيار الفني والجمالي.
فوضاي
فالشاعر في قصيدته المركزية التي جعلها عنوانا للديوان ككل «فوضاي تكتب نثرها» يضيف ياء المتكلم، وينسب هذه الفوضى إلى نفسه، وكأن الشاعر يريد ترتيب هذه الفوضى على طريقته الخاصة، وهنا نعود مرة أخرى إلى فكرة النسق والانسجام، فالشاعر يركب مغامرة إعادة الفوضى إلى حالة الذات، التي تسعى إلى خلق نظام لهذه الفوضى، أو بعبارة أدق الفوضى المنظمة تلقائيا، يقول الشاعر في قصيدة «فوضى الذاكرة»:
أتخيل في غرفتي
رأس ذئب
يسرّح أفكاره
في وسادة إنس
ويبحث في باحة الدار
عن جثة كالغراب..
في هذا المقطع يفصح الشاعر عن مصدر وطبيعة هذه الفوضى، التي ترخي ظلالها على نفسه، وإذا كان يحتفي بها جماليا، فإن هذا لا يمنع من كون روحه تعاني من بؤس الواقع، الذي لا يستجيب لطموحه، ولا ينسجم مع تطلعاته، ليؤسس أفكاره المثلى، التي تعكس سداد بصيرته في إيجاد العالم الذي يريد، هذا الواقع الذي اختار أن يرمز له بصورة الذئب الذي يقتحم عليه أكثر الأماكن حرية وهو بيته وغرفة نومه.
الذاتي
يمكن القول إن الشاعر يعيش حالة وجودية خاصة، ارتأى أن يعبر من خلالها عن ذاتيته، وما يخالجها ويعتمل بداخلها من حالات؛ بدءاً من حالة العشق الذي تجده نفسه اتجاه العالم، وما يتشكل منه من عناصر وموجودات: المرأة، الحياة، الليل، الكتابة، الأصدقاء، الوطن، الحرية، السياسة العربية، التاريخ، السفر، البحر، المطر، الماء، الحلم، النار… هذه العناصر شكلت موضوعات أساسية، نسج الشاعر من خلالها علاقة وطيدة، مكنته من البوح العميق عما يجيش في نفسه من حالات العشق والجوى، بصورة عكست أقصى حالات البوح الممكنة، ولعل موضوع المرأة تشكل، من ضمن باقي الموضوعات، الثيمة الأساس الطاغية على باقي قصائد الديوان، ليس من منطلق وجداني صرف، كذلك الذي يطبع علاقة الرجل بالمرأة، وإنما تلك المرأة الشاعرة، التي تخلق الشاعر من جديد، في ولادة ثانية، ينطلق منها الشاعر، لا يعادلها غير حب الوطن، فتتماهي المرأة والوطن، ليشكل الاثنان هوية الشاعر. ولعل هذا ما عبر عنه في مستهل ديوانه في قصيدة «ولادة»:
أتسلل مثل هدوء الصبح
من خدي ورد
من شفتي شمس
آتي رفقة شاعرة
تعجن بأصابعها الثلج الأسود.
وفي موضع آخر يقول في قصيدة «أسكنها وتسكنني»:
أنتِ سيدتي
فيك يكبر جرح هويتي. هن
ينسج الشاعر علاقة خاصة مع هذا الكائن، الذي يعيد تشكيله من جديد، في صورة جديدة غير معتادة في التناول الشعري، في الكثير من التجارب الشعرية، حين يكون الحب موقفا من الوجود والحياة، وبفعله، ومن خلاله، يولد الشاعر ولادته الثانية، التي ترتب الكثير من فوضى الذات الشاعرة، ومن فوضى العالم أيضا. ولعل قصيدة «أناشيد الذكرى» تحيل أكثر على طريقة تعاطي الشاعر مع هذه الفوضى، في حالة لا تنفصل كثير عن الحب، ما دامت تحمل الكثير من ملامحه؛ وهي حالة الكتابة:
أكتب أنات الليل
وأمحو صاعقة الموت
بأناشيد الذكرى
طفل يهذي قمراً
قمراً يحبو في غيم العشق
ويخربش صدر الأرض.
هنا يلجأ إلى تصوير حالة الكتابة، التي يقع تحت سطوتها، كحالة شبيهة بحالة العشق، الذي لا يستقيم التعاطي معه، إلا من خلال الحب والعشق والطفولة، فتصير الكتابة، هي الأخرى لعبة، يتعاطاها الشاعر بكثير من الانفعالات، وقد يلجأ في غمرة النشوة بفرحه الطفولي، إلى أن يتقمص أدوارا أخرى، لكائنات موسومة بالرقة واللطافة؛ كالعصفور والسلحفاة، تساوقا مع ما يجده في نفسه من إحساس بوطأة الواقع، الذي يجثم على نفسه ودواخله. يقول في قصيدة «أنثر ذاكرتي حرا»:
قالت: أنت، إذن،
سيزيف يفكر
في حجم الصخر
ويريد طلوع القمة الشماء
حتى تهرب منه نساء القصر. ويرد العصفور:
إني أرفع رايات وجودي
أنثر ذاكرتي حرا
فوق الأغصان
أقول لهم:
إني ذات من مشي سلحفاة.
ولعل قصيدة «اعتراف» تعكس أقصى حالات التماهي بين لعبة الحب والكتابة، حتى يلتبس الأمر على القارئ. يقول:
أنا بدمي كنت آتي إليها
إذا جن ليلي
أعود إلى عنكبوت الكتابة
فوق سكون الورق
أنسج اللوم
واللعن في غرفتي
وأقول لها:
اِغفري زلَّةً أو عتاباً،
وانظري ضعف نعلي
حبيبي يشيد عش الهوى
في سويداء قلبي.
التاريخي
ومن الموضوعات التي يرسم الشاعر كتابتها، انطلاقا من ذاتيته الشفيفة؛ موضوع التاريخ؛ ففي قصيدة «الطفلة والبومة» يستحضر مدينة غرناطة، وما ترمز إليه من ماض سليب مأسوف عليه، غدا أسيرا بيد الشؤم، يرسم معالمه كيف يشاء، ولم يبق من ذاك التاريخ الذي يشكله الفردوس المفقود غير بومة تتسكع في شارع العارسيراأ:
وسط غابة غرناطة
عثرت طفلة الحلم سهوا
على بومة
تتسكع في حانة
يمنة غرقت في الخريطة
يسَّاقط التمر منها اتباعا
بأكبادها بومتي
تتوسل في شارع العار.
الآخر
يمكن القول إن الآخر في هذا الديوان ترسمه الذات الشاعرة، انطلاقا من الإحساس العميق الذي تستشعره اتجاهه، بدءاً من المرأة، حتى تصير حلما لوطن، كما نجده في قصيدة «وطن ليلى»:
ليلى تترقب
ضحكة المساء
القمر يسقط
في مراتب الجنون
مجنون يقرأ كف وطنه
في حزن الماء
أو عبر استحضار مجموعة من رموز الشعر العربي أو الغربي من قبيل: قاسم حداد، كما هو الشأن في قصيدة «فوضى قاسم حداد»، أو ابن عربي، في قصيدة «أنثى ابن عربي»، أو الشاعر الفرنسي سان جون بيرس في قصيدتي «رسالة إلى سان جون بيرس»، و«جواب سان جون بيرس». والملاحظ أن هذا الاستحضار لمثل هذه الرموز، يعتبر احتفاء بهذه القامات الشعرية، وهو استحضار ينبع، أساسا، من كون هذه الرموز، تكتب تجربتها الشعرية بلغة أقرب إلى ذات الشاعر نفسه، فكلاهما ( بيرس وعمارة) يكثران من المجاز والاستعارات، والإكثار من استخدام الكناية والرمز، أو أن الشاعر يستأنس بحالة وجدانية، عكستها تجارب المتصوفة، كما نجد ذلك عند ابن عربي في تصويره لحالات الشوق الذي يسكن باللقاء، أو يتأجج عندما يكون الحب مقاماً إلهياً، وهو ما نجده عند عمارة أيضا؛ حيث يفضي الحب إلى كثير من المداخل، لا تكون العلاقة التي تطبع الرجل بالمرأة غير وجه واحد من بين أوجه أخرى عديدة.
السياسي
في قصيدة «فوضى الطفولة»، يرسم الشاعر يحيى عمارة وجها آخر للسياسة العربية، التي يكتوي بنارها المواطن العربي المغلوب على أمره؛ حين تمعن هذه السياسة في رسم ملامح قتل المواطن العربي والطفولة العربية:
تلك هي الطفولة تنتشي
ببنفسج البراءة
كنا صغارا في بيوت من تراب
نلهو بجمجمة الكلاب
نلعب لعبة كوكو غراب
ماذا ذبحتم يا عرب؟
لقد ذبحنا أمة..
…
في بلاد الروم
يضحك قط هولاكو
يبكي أبوكم على سلالة منفيين
ينام نصفهم
على خط الرصيف.
تشكل هذه الثيمات قضايا شعرية تماهى معها الشاعر، كانت الذات فيها مرآة عاكسة لصدى الآخر في الذات الشاعرة.
٭ كاتب من المغرب
محمد عبد الفتاح