القاهرة ـ «القدس العربي» من محمد عبد الرحيم: رغم مرور إثنا عشر عاما على رحيل نجيب محفوظ (11 ديسمبر/كانون الأول 1911 ــ 30 أغسطس/آب 2006)، إلا أن الدراسات والمتابعات النقدية، وإعادة قراءة أعمال محفوظ لم تتوقف، خاصة من قِبل الأجيال الجديدة، وكذلك المناهج النقدية والبحثية الجديدة، التي تجد في أعماله مجالا خصبا للتطبيق.
هذه الأعمال المتنوعة والمتمثلة في أعمال روائية وقصص قصيرة، أو نصوص وسيناريوهات ارتقت كثيرا بالسينما المصرية، وأخرجتها من نمطية المصادفات وتقليد الحكايات الأجنبية المُمَصرة، التي تبتعد كثيرا عن الحياة المصرية. ورغم الكثير الذي قيل وكُتب عنه، والأكثر الذي سيُكتب مستقبلا، تزامن مصادفة صدور مؤلف جديد يتناول الرواية الأزمة «أولاد حارتنا»، لمؤلفه الصحافي محمد شُعير، والمعنون بـ«أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرّمة» ــ دار العين للنشر 2018 ــ هذه الرواية التي كانت السبب المباشر في محاولة اغتيال نجيب محفوظ عام 1995، والتي أيضا لم يسلم من إشاعات أنها أهم أسباب حصوله على جائزة نوبل عام 1988. بخلاف كونها العمل الأول بعد توقفه عن الكتابه لسنوات، وأنها في الأخير جاءت في أسلوب جديد، لم يختبره محفوظ إلا من خلالها، وقد تخلى عن الحِس والنظرة الواقعية التي انتهجها في الثلاثية، ليُيَمم بصيرته إلى وجهة مختلفة تماما. وسنحاول الإلمام سريعا ببعض موضوعات الكتاب، الذي يسرد أزمة الرواية وأزمة مناخ اجتماعي وسياسي أعم وأكبر من مجرد رواية نشرت مُسلسلة في صحيفة يومية.
في ذلك اليوم
الإثنين 21 سبتمبر/أيلول 1959: درجة الحرارة في القاهرة أقرب إلى البرودة، الشيوعيون في سجون عبد الناصر، وحملات إعلامية مخططة لتشويههم. لص مجهول يسطو على «كرمة ابن هانئ» بيت الشاعر أحمد شوقي على نيل الجيزة، عناوين الجرائد الرئيسية تتحدث عن مظاهرات حاشدة في العراق ضد عبد الكريم قاسم، بعد تنفيذ أحكام الإعدام في عدد من قادة «ثورة الشواف»، وكانت جريدة «أخبار اليوم» قد قادت الهجوم الأعنف، وأطلقت على «قاسم» قبل أيام لقب «نيرون بغداد». على المستوى الدولي اهتمت الجرائد بأول زيارة لزعيم سوفييتي إلى الولايات المتحدة، حيث ألقى نيكيتا خروتشوف خطابا في الأمم المتحدة، طالب فيه «بإلغاء الجيوش من كل دول العالم وإلغاء وزارات الدفاع والكليات العسكرية، والاكتفاء فقط بمجموعات صغيرة لحفظ الأمن الداخلي». العناوين تركز على تصفية الإقطاع وتوزيع قطع من الأراضي الزراعية على الفلاحين. في جريدة «الأخبار» يحاور ناصر الدين النشاشيبي، ستن فريبرج عضو مجلس إدارة جائزة نوبل، الذي يعلن أن «الجامعات العربية مسؤولة عن عدم ترشيح أي عربي لجائزة نوبل».
في القاهرة كان المسرح القومي يقدم «العشرة الطيبة»، وفرقة الريحاني تقدم «حكاية كل يوم»، ورياض السنباطي انتهي من تلحين «الحب كده» التي ستفتتح بها أم كلثوم موسمها الغنائي، دور السينما كاملة العدد، يمكن أن نرصد في ذلك اليوم أكثر من 15 فيلما أجنبيا، والعدد نفسه تقريبا للأفلام المصرية، منها «عاشت للحب» لزبيدة ثروت، «الحب الأخير» لهند رستم وأحمد مظهر، و«البوليس السري» لإسماعيل ياسين. وفي صفحتها العاشرة، بدأت جريدة «الأهرام» نشر أول حلقة من رواية نجيب محفوظ الجديدة «أولاد حارتنا». (بتصرف من ص 11 إلى ص 15). ربما اقتباس هذا المقطع يدل على الأسلوب الذي انتهجه الكاتب في تقصي ملابسات نشر رواية «أولاد حارتنا»، فالعمل يعد استقصاء تاريخيا واجتماعيا وسياسيا لزمن نشر الرواية، فهو لا يقتصر على فكرة التأريخ الأدبي، كمكانة الرواية في إنتاج محفوظ وإنتاج غيره من معاصري تلك الفترة، وهو ما سيتضح أكثر في فصول الكتاب، الذي حاول رسم صورة عامة وشاملة لمصر في ذلك الوقت.
البداية
يذكر الكاتب مؤكدا أن أول هجوم معلن على الرواية كان في مجلة «المصور»، في رسالة أرسلها قارئ اسمه محمد أمين إلى الشاعر صالح جودت محرر باب «أدب وفن» في 18 ديسمبر 1959 أي قبل اكتمال نشر الرواية بأسبوع كامل. القارئ اعتبر أن محفوظ في روايته الجديدة: «يحيد ويجانب كل أصول القصة، فكتابته الأخيرة لا هي رمزية ولا هي واقعية، ولا هي خيال، ولا تنطبق على أي قالب معروف… جاء محفوظ ليتحدي معتقدات راسخة، ولهذا يتعذر على كائن من كان حتى لو محفوظ نفسه، أن يقدمها بمجرد كتابة قصة. التستر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ في مجتمع يجل الدين في طبيعته». ويذهب الكاتب إلى عنوان محمد أمين، ليكتشف ــ حسب قوله ــ أنه لم يجد أثرا أو وجودا لشخص بهذا الاسم، ما يوحي بأنه ربما يكون صالح جودت نفسه صاحب الرسالة!
الصراعات الأعمق
أرادت جريدة «الجمهورية» منافسة «الأهرام» فاختارت رواية «البيضاء» ليوسف إدريس، وهي الرواية التي ينتقد فيها بعنف التنظيمات الشيوعية المصرية. بدأ النشر بعد 12 يوما من نشر محفوظ لروايته، وكان نشر رواية إدريس بتشجيع من صلاح سالم، أحد ضباط يوليو/تموز. ومن فكرة الضابط الثورجي المشجع، فإن الصراع حول الرواية لم يقتصر على كونه أدبيا أو اجتماعيا، بل سياسيا في الأساس، وإن كان في البداية في شكل غير مباشر، حيث كانت أزمة الرواية جزءا من معركة أكبر عنوانها معركة السلطة للهيمنة على المجتمع دينيا وسياسيا وثقافيّا. فأجواء المعركة أبعد زمنيا من رواية محفوظ، ومن ثم سعت كافة القوى السياسية على اختلافها إلى استعادة هذه المعركة، عبر هذا الكنز الذي وفرته لها رواية محفوظ، وتوظيفها لمصالحها الشخصية. ومن ثم فتحُ الباب على مصراعيه للهجوم على محفوظ على نحو ما فعل وزير الاقتصاد آنذاك حسن عباس زكي، الذي قاد الهجوم على وزير الثقافة ثروت عكاشة محملا إياه المسؤولية، لأنه أسند مهمة الرقابة لرجل «متهم في عقيدته الدينية». الشيء نفسه فعله كمال الدين حسين الذي قاد هجوما مستترا بالتحريض على محفوظ. ويتضح أن جميع الأزمات التي أُثيرت حول الرواية كان وراءها النظام، حيث كانت ثمة ريبة في أجهزة الدولة من أن الرواية موجهة ضد النظام، وأنها اشتمت فيها رائحة مؤامرة. كشفت الرواية عن أزمة الرقابة وهيمنة التيار اليميني المتشدد، الذي كان ينظر إلى الفن بريبة، وهو ما حدث مع رواية فتحي غانم «البارد والساخن» وإحسان عبد القدوس «البنات والصيف». ويرى محمود أمين العالم أن «جوهر الرواية هو النقد القيمي الفكري الرمزي للسلطة الناصرية، للتناقض بين شعاراتها ومبادئها وبعض ممارساتها، خاصة تلك المتعلقة بالديمقراطية السياسية». لذا لم تكن الرواية بعيدة عن عين النظام، وأن الانشغال بها عن طريق مشايخ الأزهر، بمعنى تصديرها من الوجهة الدينية، لهو أخف وطأة من المواجهة مع انتقادها السياسي، خاصة في مناخ يدمن التدين، مهما طاله من مظاهر التحديث.
اليمين المتشدد نفسه هو الذي لم يسمح بنشر الرواية في القاهرة، وقد رفض صفوت الشريف نشر الرواية، على الرغم من موافقة مبارك بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل، والوعد بنشرها!
المصدر والمخطوط الأصلي
يشير الكاتب إلى المصدر الأساسي لـ«أولاد حارتنا»، والمتمثل في عمل برنارد شو «العودة إلى متوشالح» ــ عمل مسرحي من خمسة فصول ــ إضافة إلى وجهة نظر معلم محفوظ سلامة موسى، الذي كان يؤمن بالعلم بدرجة تكاد تكون مطلقة. من ناحية أخرى يبدو تساؤل الكاتب عن مصير المخطوط الأصلي للرواية، فمحفوظ نفسه يؤكد أنه أودعه جريدة «الأهرام»، وقد اختفى المخطوط بعد ذلك، ولكن ماذا عن طبعة دار الآداب البيروتية؟ كما يشير إلى أن الطبعة الوحيدة الكاملة للرواية، جاءت في ترجمتها الإنكليزية، حيث قارن مترجم الرواية ما بين طبعة «الأهرام» وطبعة دار الآداب، فاكتشف أن هناك 961 اختلافا بين النصين، ما يمثل 1241 كلمة ناقصة.
البحث عن القيم الروحية
«رواية بحث الإنسان الدائم عن القيم الروحية». هكذا أشارت لجنة نوبل في تقريرها عن «أولاد حارتنا»، ولكن البعض كان له رأي آخر.. فبعد أن أصدر الخميني فتوى بقتل سلمان رشدى في فبراير/شباط 1989 بسبب «آيات شيطانية». سُئل عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية عن رأيه في رواية رشدي فأجاب، في العديد من الصحف وفي خطبته للجمعة «لو قتلنا محفوظ من 30 سنة مكنش طلع سلمان رشدي». وهو ما استجاب له بعد خمس سنوات، شاب فى العشرينيات من عمره اسمه محمد ناجي لم يقرأ لمحفوظ حرفا ليرتكب الجريمة في يوم الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول 1994.
هذه بعض لمحات من سيرة الرواية وعالمها وما تسبب عنها من تداعيات، ظلت تلاحق نجيب محفوظ، حتى بعد رحيله، فقبل عامين، ومع الذكرى العاشرة لرحيله، أتى أحد أعضاء مجلس النواب المصري ــ حاصل على دكتوراه في القانون الجنائي ــ وطالب بمحاكمة نجيب محفوظ بتهمة خدش الحياء! وهو لن يكون الأخير في ظل مناخ أكثر ظلاما من وقت نشر «أولاد حارتنا».
يبدو أن بعض الشباب الطامح إلى الشهرة؛ يفضل الصعود على ظهر التيار الإسلامي الجريح. للتاريخ فإن أول من أشار إلى تجاوز الرواية في حق الذات الإلهية والأنبياء وغيرهم، كان اليساريون في جريدة الجمهورية ولم يكن قارئ المصور الذي ورد في الموضوع. فقد نشر أحمد عباس صالح في الجمهورية ومن بعده سعد الدين وهبه أن الرواية تتناول أمورا مخالفة للدين، وعندما اتسعت دائرة الجدل، شكبلت لجنة من أساتذة الأدب في جامعة الأزهر لقراراءة الرواية وكتابة تقريرعنها.
الرواية كانت مرحلة في تطور نجيب محفوظ الفكري، ووضح هذا التطور في رواياته التالية، وأظنه كتب رواية أفضل وأقوى من الحارة ، وهي رواية الحرافيش التي تمثل نقلة كبيرة فنيا ومضمونيا. وظني أن نجيب محفوظ كان يدرك ضعف روايته الحاره، وهو ما جعله لايلح على نشرها، ويعلن قبوله لقرار السلطة بعدم طبعها في حينه.