في مجموعته «يترجل عن ظهره كخطأ كوني»: عبدالله المحسن … سيرة الطفل المتجسد في شكل خطيئة

في حديثه عن قوة الشعر يميل جيمس فنتن إلى أن «المرء عندما يضع القصيدة إزاء السيرة، فإنها تصبح إلى حدٍّ مضلل نوعاً ما عملاً من أعمال الإخفاء».
وهذا هو بالتحديد ما حاوله عبدالله المحسن في مجموعته الشعرية «يترجل عن ظهره كخطأ كوني»، الصادرة حديثاً عن دار مسعى للنشر والتوزيع، حيث يفصم ذاته مجازياً بين سيرتين: وهمية ومتكاملة. يمزج فيهما بين الواقعي والمتخيل، المعاش والمستعار. على قاعدة محكي الذات. فيما تضغط تفاصيل السيرة الحقيقية على محاولات الإخفاء والإيهام. ففي المجموعة حسّ اعترافي بوحي أخاذ، كلما اقترب من منابع غبطته البكر: قريته، نخلة أسلافه، أمه، جدّه. حيث يخاطب ذاته أو قرينه المدّبر ليمرر للقارئ مكمن تدفقه «عد إلى القرية/ وابحث عن القصائد/ التي لم أكتبها بعد».
ثمة خط وهمي ما بين السيرتين أشبه ما يكون بلعبة تمويهية يؤدي فروض سردها بمكر شاعر لم يحكم استخدام المجاز. فنصّه يتشكل في (المابين)، أي ما يمكن أن يحدث وما حدث بالفعل. حيث يروي عذابات طفل شائخ «الآن/ بعد سبعة عشر عاماً فقط/ أشعر أنني عبرت الكثير من السنين/ ربما لأنني كنت أعدو كثيراً/ بين شواهد القبور/وأقرأ سريعاً/ تواريخ الموت المنقوشة عليها/ الآن أشعر أني كبير/ كبير جداً/ كفأر تعب من الركض في دولاب الحياة/ محض مسن صغير». ومن تلك الحافة العُمرية يرتد عمودياً داخل ذاته «أتذكر أني طفلٌ كنتُ أختلس النظر إلى الشيطان». إذ لا تغادره وساوس الخطيئة، التي تشكل بدورها – كمفردة وثيمة – قيمة تبئرية لتوطين مراداته الشعرية «أنا الذي سوف تنمو فوق قبري/ شجرة تفاح/ مليئة بالآثام».
تلك هي ملامح الطفل الآثم الذي يرتعد قُبالة تخيلاته واقترافاته التي لم تُرتكب، حيث يُكثر من الطرق على مفردة (الطفل) ليتعافى ولو ضمنياً من حسّ الخطيئة الطاغي في نصه. سواء بشكل تصريحي أو تضميني «أبدو كطفل صغير/ ينمو محاولاً قطع جذوره/ من سلالة البشر»، خصوصاً أن النص تتأسس بُناه اللفظية والدلالية بشكل عام على المكوّن الديني بسطوته الغيبية (الكتاب السماوي، الأنبياء، البئر، الطوفان، الجب، آدم ). حيث يستدعي وجوده النصّي داخل مدار الخطيئة «وكما أنني الطفل الشقي الذي لم يسجد». وفيما يشبه الاحتراز من حتمية الخطيئة ينكسر في عبارات دالّة تأخذ من الوجهة اللغوية شكل المُعاش الممتنع «وأنا لا أحتمل أن أرى ذنبي يكبر بين يديّ/ لا أحتمل أن أراني متجسداً على شكل خطيئة».
لهذا السبب يُكثر عبدالله المحسن – كطفل – من التخاطب مع (الله). إذ لا يخلو مقطع من مناجاة أو عتاب أو مساءلة أو امتنان، اسم أول قصيدة كتبها «الله فيّ». ولهذا السبب أيضاً ينفجر الكلام في داخله أحياناً، ويخفت تارة أخرى في ما يشبه الإخراس الذاتي. نتيجة انفصامه بين الرباني والشيطاني «مغلق فمي/ بسبابة ملاك/ ومطارد بلثغة شيطان». وبسبب انحباسه في جسد شاب تواق لتجريب الحياة «جسدي للتو خرج من التنور/ دمي معتق بالرغبات». وبمقتضى ذلك التصارع النفسي الجسدي الحاد يرثي شبابه المهدور على حافة الاشتهاءات «أمشي على الأرض لأحفر قبري». يمشي (بعكاز كإصبع إله). بل يلجأ إلى التظاهر بالموت «اقتربوا لتشهدوا على طراوة المعنى/ هذا أنا أمامكم الآن جثة هامدة/ كحقيقة». وكأنه يستخدم النص كميكانزم دفاعي لكبح غرائزه الفائرة وهلوساته الفكرية، التي تأخذ شكلها في صور شعرية.
هكذا يبدو البُعد السيري على درجة من الوضوح، في هذا الحيز من النص. إنما بعبارت تهويمية محتّمة بسلطة المجاز. فهي مستلّة من مخيال جارف، وبارع في نحت الصورة الشعرية «الآن يشبه ظهري/ لوحاً آشورياً/ يؤلمه الخط المسماري»، حيث يبلغ ذلك الدفق التصويري مداه في بورتريه رثائي لذاته الممزقة «ليس سراباً هذا الذي يحيط بي/ إنه أنا من بعيد أبكي علي». الأمر الذي يفسر هنا أيضاً استدعاءه الدائم للملاك والملائكة. إذ لا يتخيل نفسه داخل النص إلا محفوفاً بهم. وهو أمر طبيعي بالنسبة لكائن يعبر النص/الحياة وكأنها جحيم، ويتعرقل في كل مفصل من نصه/ حياته بالموتى «الجحيم/ الجحيم لديك/ أن تستمر هذه الحياة».
كل محاولات الإخفاء تلك والتظاهر بعدم الحضور في النص إلا كوجود انطوقي من خلال الكلمات المجنحة، سرعان ما تتبدّد عند فحص معنى التخريب المشهدي للحياة مقابل انضباطية النص، وتتالي الصور، وتماسك خيطية السرد، واختبار كل ذلك في مختبر التجربة المعاشة. حيث يعترف بهشاشة الأكاذيب التي تحاول إلغاء فصاحة الجسد «لا وهم نحنط به أجسادنا». أما (أناه) فهي مبعثرة في قاموس متقشف. محدود المفردات (قيامة، خطيئة، ملائكة، جسد، جحيم، الله، جدار، فم، شجرة، أسلاف، ملاك، جلد، طوفان، طفل، بكاء، حذاء، حلم ). إلا أنه ومن خلال براعته في التخييل الذاتي استطاع التنويع على كل مفردة من ذلك المعجم، وتوليد طاقة تعبيرية مضاعفة.
وهو هنا لا يصنع أسطورة جوفاء عن نفسه، بقدر ما يتجرأ على إعادة الشاعرية إلى عالمه المنثور. فواقع القرية الذي يعرضه متحلّلا ومتهدماً أمام عينيه، يحتاج إلى نص نثري بالضرورة لتجسيد فكرة الجمال الزائل. وكأنه يتأمل انبتار الحبل السري الذي يربطه بسلالته «أنا لا أزال يدوي في قلبي دوي ارتطامنا بالأرض/أسمع بكاء الأسلاف/ ونحيب الأرض من سقوطنا». وكلما حاول أن يندفع في رونقة نصه بجرعات ثقافية موضوعية، أو برّانية بمعنى أدق، داهمته حميمية مكانه، وصرخت (أناه) المشدودة إلى ماضيها «لا أثر لخطوات الأجداد حتى نمشي عليها»، إذ تملي عليه حواسه فكرة الزوال بقوة «لا أبناء بعدنا يدلون علينا/ نحن آخر المبشرين بنا».
هذا الحسّ القروي المعولم هو الذي يهب نصه أصالة نثرية، فهو لا يعاند حسّ الحداد الطاغي في داخله، بل يحاول تمكيثه وتعميقه. الأمر الذي يجعل من نصّه الشعري، الذي يبرهن عن نفسه في شكل نثري، عُرضة لهسهسة غنائية. كما يتعزّز هذا المنحى من خلال البعد الرثائي للذات، للقرية، للأسلاف، للنخلة، حيث يبدو ذلك واضحاً ومدهشاً في آن. من حيث انزلاق الكلمة الهادئ في سياق النصوص. لدرجة يبدو فيها المحسن أحياناً وكأنه يرتجل نصه، ولا يُخضعه لتحكيك المعمل الثقافي، إذ يلاحظ أنه يجيد ترسيب الأفكار والمشاعر في قاع العبارة، بعفوية وسهولة، لتكتسب ثقلها المعياري. كما يبدو ذلك لافتاً في نصه (تمرُّس) الذي يختتمه بمفردة تنويرية تضيء المعنى «أيها الفلاح أحرث الآن/هذا الجسد/ بيدك التي اعتاد المكوث/ طويلاً في الفكرة/ ولتنتطر الصرخة تخرج من فمي/ كشجرة».
وظيفة الشعر هي وعي الذات والمحيط الذي يحفّ بتلك الذات. ولذلك يبدو هذا القروي المعولم مسكوناً بالمكوّن الشجري الذي تكحلت به عينه «أضم الآن يدي إلى صدري/ وأسمع صرير ما قبل الوجود/ ربما كنت شجرة». وروحه الفلاحية ساطية عليه كسطوتها على نصه الذي يحول أن يتثافف في حقل المعنى انطلاقاً من الواقع «حين يغادر ليلاً هذا الحقل/ لا تنزل الملائكة لتحرث المعنى». أما الطفولة فهي أُمه، وجدّه «والدها الذي سقط من النخلة ميتاً/ لا يزال مصلوباً عليها». ولذلك لا يمل من إرسال رسائل غير مشفّرة «إلى امرأة لا أعرف من اسمها سوى أمي». يشكوها يتمه «وأنا وحيد أمي يهبط وجهها ككتاب سماوي». يتودّد إليها «أيتها الوحيدة.. كم يسيل منك الضوء على سفح أكتافي».
عباراته تترقق كلما اقترب منها، ومخياله يشطح بالتصويرات المذهلة كلما استدعاها «أمي التي تمرغ أحزاننا/في الطشت/ تستخرج من الجوارب خطواتنا/ المتعبة/ تستخرج قلوبنا من القميص/ وترى عليه بعض الدم». وعلى إيقاع تبتُّله بها تتهيّل الصور الشعرية الأخاذة «تنشر الملابس على السطح/ كما لو أنها تنشرنا/ وتقدمنا قرباناً إلى الله/ يا الله/ لماذا أنزلت المطر هذا المساء؟». وهكذا يجعل من الهامشي الاعتيادي المتمثل في (حبل الغسيل) مادة شعرية بعيدة الدلالات «لم تكن لدي أرجوحة في طفولتي/ كنت أنا القميص الذي يتأرجح/ فوق حبل الغسيل».
هذه هي السيرة المتخيّلة لطفل السابعة عشرة الذي أتقن لعبة الممازجة بين التشكيل الثقافي للنص والعالم الداخلي للحواس. الذي يخشى الوقوف عارياً أمام مرآة الجدار لئلا يرى سوأة الأخطاء المنحفرة في جسده. فطالما راود نفسه أن يكون (إلهاً أو نصفه) . وحلم على الدوام بـ (صنع قيامة)، حيث اصطفى نفسه في السفينة الناجية من الطوفان «بعد الطوفان/ وحين نهبط من على السفينة/ كل زوج يتأبط يد الآخر/ وفي داخله/ سلالة كاملة من الخليقة». وبحيلة لغوية مدّبرة مات داخل نصه، بعد متوالية من الخطايا المتوهّمة، أو ترجّل كخطأ كوني.. ليقف مخاطباً الموت «بعد كل هذا أيها الموت/ كيف تود أن تحرمني لذة انتظار القيامة؟». ليستقر في الجنّة كطفل أرهقته أسئلة الوجود العصّية، وآن له أن يستريح «يحدث أننا نعود الآن إلى الجنة/ برغبة أكبر/ نترك أحذيتنا أسفل السرير/ ليكملا مسيرة الأقدام على الأرض». وبذات المخيال الطفولي يشير إليها ببهجة فائضة «لكن أصابع قدميك متدلية من أسفل السماء».

٭ كاتب سعودي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية