قراءة في «أليس والكاهن» للروائي اللبناني إسماعيل الأمين: ضبط العدسات الفاصلة بين حدود الزمن الفينيقي و الحالي

تعكس رواية «أليس والكاهن « التاريخ في رواية فينيقية صادرة عن دار النهضة للروائي إسماعيل الأمين يتغلب فيها على حدود إدراك التاريخ، فيضعه ضمن فلسفة تشهد على السحر الفينيقي وخرافة الزمن الذي يجمع الأجيال المتعاقبة. لتعيد الأسطورة نفسها بأسلوب مختلف، وما أليس الا جيل الشباب الذي يثور على الكهنة أو الأجيال القديمة، فيتحدى ويتخبط ويحاول التجديد، من ثم تدور الحكاية الإنسانية في دائرية الزمن الذي يضع الأشياء تحت العين الواحدة، أو عين الحكمة، مستمداً الإلهام من التاريخ والإدراك التخيلي له، ليتدخل في ضبط العدسات الفاصلة بين حدود الزمن الفينيقي والزمن الحالي. إذ يستدعي الذهن تارة وتارة أخرى يتركه ضمن أسطورة طفل العسل، وما ينتج عنه من مغامرات في عرض البحر، وما على أليس إلا أن تتبع الكاهن وتلتزم بتعليماته ليولد الطفل القادم ضمن شروط عقائدية أو أسطورية أو خرافية، وبأدوات روائية معقدة نوعا ما. رغم بساطة السرد التاريخي أو الأسطوري بمزج ارتبط بين زمن فينيقي وآخر مفتوح على الربط الذهني عند القارئ، كأنه يمارس «لغة الإيحاء والإحساس الساطع. ولغة البيان والغامض» فما الذي تقوله خرافة إسماعيل الأمين، ضمن سطور محشوة بالإيحاءات، وبحلم العودة إلى زمن فينيقي جمع الأسطورة بالتاريخ وخراقة رواية تقودنا إلى التشكيك. فهل يمكن إدراك حدود التاريخ بالكامل؟ ومتى تأخذ الحكايات الخرافية دورها في الرواية؟
هل يعارض إسماعيل الأمين المراحل المبهمة من التحول الفينيقي إلى الزمن المعارض بمقارنات لم يعتزلها، بل وضعها مباشرة امام القارئ بدون أن يترك له حرية الاستكشاف، وبشجب للراوي بغض النظر عن الضبط الروائي المقترن بالحكاية ونهايتها المتسامية مع أليس، التي عاصرت الكاهن، واستمدت منه القوة لتكمل طريقها نحو المجد الفينيقي، بسطوع لابنة صيدون وابن صور والمجد اللبناني المبني على عظمة فينيقية تجسدت في رواية إسماعيل الأمين مع رسائل بوزلي والشيخ الهرم، وقد تكون بعض المواقف للشخوص هي عين العقل التي يبحث عنها إسماعيل الأمين في الزمن الفينيقي، أو بالأحرى عين الحكمة الضائعة في الأسطورة، وقد تكون مرفوضة اجتماعيا لمعرفة مدى الفائدة من طقوس فينيقية في زواج وطفل عسل، وما إلى ذلك لتكريس المشهد الروائي للإضاءة على بنود الخرافة، ومهمة الأسطورة في تشكيل الخيال. لتحسين صورة الزمن القديم في العصور السابقة، وما يحدث حاليا في عصر اتسم بالحداثة، وكأن الإنسان في الصدى التاريخي ينقسم إلى أجيال لا تنتمي لبعضها بعضا.
افتراض لخرافة ولخيال تخالف فيه أليس كاهنها، كما يخالف هذا الجيل بمفاهيمه التقاليد والأعراف، وينتفض عليها وربما يقوم بثورة على الأحكام، ويبحث عن التحرر من قيود الكاهن أو قيود الأسلاف، والعواصف التي تؤسس إلى الصمود في وجه القوة موضحا، «اي تفسير آخر لنجاح الفينيقين في السيطرة وحدهم من بين شعوب المتوسط على الموانئ في جهات البحر الأربع». فهل يحاول تمثيل التاريخ ضمن الخرافة أو الأسطورة. ليضعنا أمام منجزات لفينيقين تركوا الكثير من العظمة في حكاياتهم وأساطيرهم، وتراثهم الذي نحمل من أبجديته ما يدفعنا إلى الاستمرار بالبحث عن أسرار التاريخ والحواشي الدسمة فيه التي تساعد على بناء حكايات مطعمة بنكهة لبنانية، وإن كان إسماعيل الأمين يريد منا التطلع إلى الزمن الفينيقي.
رؤية تاريخية في عصور فينيقية تعيد تقييم معرفة الشعوب، وخرافة التاريخ الملتصق بها إسماعيل، التي لا يفارقها في مساحات كتبه أو الجهاز التخيلي، لكاتب يصر على عودة الانفتاح التجاري في الشرق الأوسط والقوة السحرية التي يملكها الشرق، وعلى البحر الأبيض المتوسط والخطوط التجارية التي كانت ناشطة عبر التاريخ، مع المحافظة على جمالية فن العمارة الفينيقية والأزياء، وما كان يدور في الأزقة والشوارع والقصور، بتراثيات ككناية عن القوة الفينيقية في بناء مجتمعها، وإن ضمن المعتقدات وخرافة طقوسها وعين الحكمة التي تكشف عن إشباع العطش التاريخي في رواية مصغرة أشبه ما تكون ببحث مصغر يجمع حضارة بحضارة أخرى إيحائيا، وبنكهة راو افترض الخرافة ووضعها تحت المجهر كي «ندرك جميعا وبوضوح أن سرد المتخيل ليس إلا حكاية تصور الوقائع.. وإذا لم يكن الأمر كذلك لن يكون التاريخ إلا تفريغا للمآثر من أهدافها» فلماذا تدخل الراوي ووضع مقارنات بين العصر الحالي والعصور الفينيقية؟
يسعى الخيال بشكل دائم إلى التقاط المشهد الحسي لإيجاد المعنى الحقيقي الكامن خلف ظواهر تاريخية وقعت بالفعل بدون تزييف، لتطوير العالم الحديث، وبتحليل لمجتمعات قديمة كان لها الأثر البارز في وجود ما! لما شيدته من معالم سياحية وفلسفية ومعمارية، واكتشافات فيزيائية وازدهارها بفترة ما وصولا إلى الإسراف وبهبوط تدريجي نحو الاندثار، لتبقى كرموز أو منارات تقوم الحضارات الجديدة بتحليلها ودراستها لاستخراج التناقضات والفروقات وغيرهما، وتتبع آثارها حتى ضمن الأسطورية منها والخرافية، ليكون القارئ ضمن السرد الثابت الذي ينفي كل ما جاء من قبل، ويعيد لنا صورة العالم الآن.
يقول نابليون: «التاريخ ليس سوى كذبة متفق عليها» ومن هنا نحتاج لعين الحكمة التاريخية لإعادة النظر بالمفاهيم الحضارية التي نعيشها حاليا، لاستخراج معادلة وهي أن «التاريخ مرتبط بزمن واحد ومكان واحد. بينما الأسطورة لكل زمان ومكان. الخرافة ترى بعين واحدة عين القلب. والواقعة ترى بعيون العقل. للعقل ألف عين وللقلب عين واحدة. واتفاق ألف عين أمر فيه مشقة. بينما العين الواحدة ترى ولا عين أخرى تساجلها أو تخدعها. الخرافة لغة الإيحاء والإحساس الساطع. والتاريخ لغة البيان الغامض. الخرافة تجمع والتاريخ يشتت. للخرافة الكلمة ومجازها. الكلمة للتسلية والمجاز لغز بديهي لا يدرك سره إلا القراء بين السطور».. التاريخ قد يحتوي على تشتيت ببعض التفاصيل، لكنه يتناقض مع ما يراه الكل، لأن التاريخ نسبي، ما أراه أنا قد يراه البعض بشكل آخر. أما الأسطورة فلا مكان لها. لأن الوجود بأكمله أسطورة. الحياة والقيم والكائنات بنيت على الأساطير كالطوفان والأسطورة السومرية أيتانا، والكثير من القصص التاريخية التي اتخذت صفة الأساطير إلى أن تطور الوعي الإنساني وتلاشت الأسطورة بتقدمه نحو العلم والمعرفة والتقنيات، ولكن نتراجع من حيث القيم التنظيمية والأعراف والتقاليد، وما إلى ذلك، ولا نتراجع من حيث التقدم العلمي والأفكار. لأننا محصلة تطور البشرية خلال التاريخ. لهذا كان تصويب الأمين نحو حضارة فينيقية لتطوير حضارة في العصر الحديث، ولاستخراج النقاط الأساسية التي كانت تجري في مجتمع قديم، وما زالت في مجتمعاتنا بترميز تاريخي لمآثر فينيقية تغلغل فيها بشكل رمزي لتجار العالم القديم على السواحل المتوسطية، فهل طائر الفينيق من الرماد يفيق في أسطورة تاريخية كتبها إسماعيل الأمين؟

٭ كاتبة لبنانية

قراءة في «أليس والكاهن» للروائي اللبناني إسماعيل الأمين: ضبط العدسات الفاصلة بين حدود الزمن الفينيقي و الحالي

ضحى عبدالرؤوف المل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية