في التاسع من كانون الثاني/ يناير 2015 نشرت يومية لبنانية بادت لزمن قريب «السفير»، افتتاحية بقلم معلق سياسي مشهود له بحسن الاطلاع عنوانها «ماذا رأى درباس في «المنام» وكيف فسره؟».
أما درباس المقصود فوزير الشؤونِ الاجتماعيةِ اللبناني، رشيد درباس، بين شباط/ فبراير 2014 وكانون الأول/ ديسمبر 2016، وأما ما رآه في المنام فالتالي «كنت وزوجتي لوحدنا في المنزل. وفجأة دخل علينا عدد كبير من الأشخاص الموزعين بين رجال ونساء وأطفال، وتوجهوا إليّ بالقول: «بدنا ننام»، ثم ما لبثوا أن أخذوا غرفة النوم، ما اضطرني إلى أن أطوي نفسي حتى أنام في سرير للأطفال. بعد ذلك أنزلتني زوجتي إلى خيمة في الشارع للإقامة فيها، لكن فجأة، ارتفع صوت هاتفا: ممنوع الخيم». ويفسر درباس نفسه، على ذمة المعلق الراوي، حلمه فيخلص إلى «أن منسوب النزوح ارتفع الى حد أغرق لبنان».
ولا يظنن أن منام الوزير بالأمر الفذ أو بالشعرة في العجينة. فبشهادات لا تكاد أن تعد، أو أن تحصى، تتقدمها تصريحات يتبارى أهل الحل والعقد اللبنانيون في الإدلاء بها، لا مستثنيا بعض الدينيين منهم، ولا تتأخر عنها فسبكات المواطنين «العاديين» وتغريداتهم، بالعربية وبسواها من اللغات، ولا يخلو أن تمثل عليها بين الحين والآخر يافطة هنا تدعو «السوريين» إلى عدم التجول بعد حلول ساعة معينة، أو شريط بالصوت والصورة يوثق إهانة «سوري» هنا أو ضرب آخر هناك، ــ بكل هذه الشهادات يمكن القول إن «رأيا عاما» لبنانيا، عابرا إلى حد بعيد للمناطق والطوائف، يرى إلى «السوري» على أنه، في أحسن الأحوال، طفيلي أشعبي مختلس يزاحم أهل الدار مأكلهم ومشربهم وأسرتهم وأشغالهم وبنيتهم التحتية وكهرباءهم وأنابيب صرفهم الصحي، وحتى أعراضهم ــ إن «رأيا عاما» هذا شأنه بات جزءا لا يتجزأ من المشهد اللبناني، وفوق ذلك بات يحظى بقدر لا يستهان به من المقبولية الصامتة أحيانا الناطقة في أكثر الأحيان.
بطبيعة الحال، لم ينبت هذا الرأي العام نبت الفقعِ في الصحراء، على إثر شتوة في غير موسمها، بل لا مبالغة في القول إن هذا الرأي العام هو من جنس الزراعات المأنوسة المروية التي لا تنمو وتزهر إلا بأن تتعهدها يد الرعاية.
قد يكون في يوم من الأيام أن تأخذ الحمية أحدا ما فيكتب سيرة تفصيلية لنمو هذا «الرأي العام»، وازدهاره، على ضوء ما تدحرجته الأوضاع في سوريا وفي لبنان ــ في سوريا من أول اندلاع الثورة، إلى تحولها التدريجي نزاعا أهليا فتح الباب أمام تحول سوريا نفسها إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي معلن، وفي لبنان، حيث جدد اندلاع الثورة شباب انقسام سبق إليه اللبنانيون منذ عام 2005 بين المؤيدين لنظام الاستبداد في دمشق والمعارضين له، وحيث لم يلبث هذا الانقسام أن خبا مع خبو الثورة وحل محله ما يشبه العماء الجماعي عن الأسباب التي أدت بالسوريين إلى الوفود إلى لبنان، وحلت محله وسوسة لا تقل جماعية موضوعها الأثقال الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي ينوء بها هذا الوفود على الكاهل اللبناني.
إلى أنْ تدق ساعة هذا اليوم، والأرجح أنها لن تدق إلا بعد فوات الأوان، أي متى تطلق البوم لأجنحتها العنان، وتمضي في عتمة الليل مسرحة أبصارها لتتفقد الخراب وتحصيه، إلى أن يكون ذلك وتوضع سيرة جامعة مانعة لهذه المرحلة من حياة «الرأي العام» اللبناني، لا حاجة إلى كثير من التمحيص ليتبدى، لكل ذي عينين وأذنين، أن «اللجوء السوري» إلى لبنان يخاطب، في عداد أمور أخرى، سابقة «اللجوء الفلسطيني» إليه. وبخلاف ما قد يتهيأ لكثير من اللبنانيين فإن هذه المخاطبة ليست شأنا سوريا ولا شأنا فلسطينيا، بل هي شأن لبناني يضاف، في المحل الأول، إلى رصيد نزاعاتِهِم الجارية.
وإن يكن الكلام عن «اللجوء السوري» إلى لبنان من حيث أكلافه الباهظة (بصرف النظر عن صحة الأرقام التي يتوسل بها البعض وصحة تأويله لها على معنى الغرمِ المطلق) ومن حيث رفده لـ«الإرهاب» قد استعلى على سواه من كلام، فليس لعاقل أن ينسى بأن مدار الكلامِ على هذا اللجوء، لأعوام قليلة خلت، إنما كان على وجاهة الدعوة إلى إنشاء مخيمات لإيواء اللاجئين السوريين إلى لبنان، أو خطل هذا الرأي.
لا يعنيني، في هذا المقام، أن أعود إلى تفاصيل ذلك السجال، وإلى التذكير بمن مِن اللبنانيين كان مِنْ مؤيدي الدعوة ومنْ مِنهم كان مِن المعارضين لها. حسبي من الأمر ما لا يجادل فيه أحد مِن أن مجرد الهمس في أذن لبنانية بلفظة «مخيمات» هو كالحك على جرح ملتهب. وإذ هو كذلك، جرح وملتهب، فليس بسبب من وفود مئات الآلاف من السوريين إلى لبنان، هربا من بطش نظام مستبد، أو طلبا للسلامة من ويلات الحرب، أو شر من هذا وذاك، تهجيرا لهم من قراهم ومن دساكرهم، على أيدي لبنانيين، وإنما لما تخاذله اللبنانيون أنفسهم، من يوم أن انتهت «الحرب»، حربهم الأهلية مهما ألقوا بمسؤوليتها على آخرين، عن الكشف عن هذا الجرح وتفقده والسعي إلى تطبيبه.
قد يبدو في هذا القول شيء من العبث، بل من المجانية، إذ كيف يستقيم أنْ تزان في الميزان نفسه كتلة بشرية قابلة، بقضها وقضيضها، للإحصاء عددا، وقطعة من تاريخ بلد وذاكرته؟ للوهلة الأولى، لا موازنة ممكنة ولا قياس، ولكن متى ترجم المرء مصطلح «مخيمات»، ومتى ما ترجم ما سميناه تساهلا «التخاذل اللبناني» خلال السنوات التالية على انتهاء الحرب الأهلية عن مراجعة ما أدى بلبنان إلى هذه الحرب، إلى معانيهما اللبنانية، لوجد أن الموازنة ممكنة وأكثر. فمن يدقق النظر في مصطلح «مخيمات» يرى أنه اكتسب على مر سنين الحرب، ومن بعدها جملة من المعاني يحيل معها إلى مجموعة من الرهابات في الطليعة منها الرهاب من اختلال ميزان القوة بين الجماعات الطائفية اللبنانية، باعتبار الفائض العددي الذي تمثله الجماعة اللاجئة، وهو رهاب تتفرع منه رهابات ليس أقلها أن استعلاء هذه الفئة من اللبنانيين، بقوة اللاجئين المفترضة، قد تضيق لبنان على لبنانيين آخرين وتؤدي بهم إلى الضرب في بلاد الله الواسعة، أي إلى اللجوء! ومتى ترجم المرء ما سميناه تساهلا «التخاذل اللبناني» خلال السنوات التالية لانتهاء الحرب الأهلية عن مراجعة ما أدى بلبنان إلى هذه الحرب ــ متى ما ترجم هذا «التخاذل» إلى ما كان عليه حقيقة، لما وجد مفرا من الاعتراف بأنه كان انتهازا من بعض اللبنانيين، على حساب لبنانيين آخرين، للفرص والمغانم التي رافقت، إنْهاء للحرب، وضْع لبنان تحت «الوصاية السورية» ــ أي تحت وصاية النظام الذي ثار ناسه عليه عام 2011، وكان من مفاعيل ما تدحرجته هذه الثورة أن التجأ الآلاف من السوريين إلى لبنان.
حاشا أن يفهم ما قصدت إليه من هذا التسلسل على معنى المرافعة المتأخرة عن الدعوة لإقامة مخيمات لإيواء اللاجئين السوريين بوصفه الوصفة السحرية لمترتبات اللجوء السوري إلى لبنان على «السلم الأهلي». وفي أي حال، فلقد سبق السيْف العذْل ولا معنى اليوم، عمليا وموضوعيا، لأي دعوة من هذا القبيل كما أنه لا سبيل بعد، وهذا بيت قصيدي، إلى تدبر اللجوء السوري إلى لبنان باعتباره «مضافا إليه». اللجوء السوري: عاد هؤلاء اللاجئون إلى ديارهم أم أقاموا بين ظهرانينا، بات، في عداد أوصافه الأخرى، شأنا داخليا لبنانيا وقضية خلافية بين اللبنانيين فمبروك مبروك و«لئِنْ شكرْتمْ لأزِيدنكم».
روائية من لبنان
رشا الأمير
ياسيدة رشا الأمير يا أميرة الكلام
عاجز عن وصف ما قرأت من متانة النص، ودقة الوصف، ودعابة التهكم، إنه درس في علم الكلام، والأخلاق الإنسانية، وضربة مطرقة على رؤوس هؤلاء الذين في آذانهم وقر ولا يريدون ان يسمعوا إلى ما يطربهم، وإذا سمعوا يسمعون ” كالحك على الجرح الملتهب” أن ما هو ملتهب اليوم هو الشرق الاوسط بأكمله بما فيه لبنان فالأفضل للبنانيين أن يسمعوا لغة العقل كهذه اللغة.