لبنان: عن خَصْخَصَةِ الأخْلاقِ في بلد يَضيقُ بالتجامُل

حجم الخط
0

ضجَّت وسائلُ التواصل الاجتماعي خلالَ الأسبوع الماضي، وضجَّ معها بعضُ الإعلام التَّقليدي، بخبر مفاده أنَّ طلابًا من حزب الله منعوا، في إحدى كليات الجامعة اللبنانية، (الجامعة الوطنية)، زملاء لهم من إحياءِ ذكرى زميل لهؤلاء، قضى نتيجة حادث سير، وذلك بعد أن بادروا ، في إطارِ الإحياء، إلى بثّ أغان كان يُحِبّها الطالب الراحل.
وإذ اتُفق أنَّ الطالبَ الراحلَ كان يهوى أغاني فيروز، سارع الرأيُ العامُّ، ما إن شاعَت تفاصيلُ الحادثة، إلى اختزالها في معادلة لا يصعُب على أحد فهمها من الوهلة الأولى: «حزب الله يمنع فيروز في الجامعة اللبنانية». وعلا الضَّجيجُ أكثر فأكثر فلم يتأخّر قاصٍ أو دان عن الإدلاء بدوله إلى حدٍّ لم ير معه مكتب الطلاب في حزب الله المسمى «التعبئة الطلابية»، على غرار ما تَتَسَمّاه مكاتِبُ حزب الله العسكرية وغير العسكرية،ــ لم ير معه بداً من الاعتراف بوقوع الواقعة، ومن إذاعة بيان يزعم توضيح ملابسات ما كان، (ولو أن مطالعة البيان المذكور تزيد الأمر عماية وإغماضًا).
الآنَ، وقد قضى الرأيُ العامُّ، ولا سيما الرأيَ العامَّ الافتراضي، وِطْرَه من هذه الحادثة، وأخلت، هي، الصدارةَ لسواها، لا بأس من العَوْدِ عليها، ومن استخلاصِ بعض معانيها.
لا يخلو تبجيلُ الكثرة الكاثرة من اللبنانيين، (ومن غير اللبنانيين أيضاً)، لفيروز، ورَفْعُهُم إيّاها إلى مرتبة «الذات» التي يُحظّر المساس بها، من الوشاية بشيء مَرَضِي ما يبقى للراسخين في النَّفسانيات أنْ يشخصوه، وأن يردوه إلى أسبابه القريبة والبعيدة، وأن يفسروا ما يسده، لربما، من حاجة فردية وجماعية إلى تنزيه للمشاعِرِ بما فيها الجياشة منها.
يعنينا من الأمر هنا، بصرف النظر عن أسباب ذلك، أنَّ الطالبَ الراحِلَ كان يُحِبُّ فيروز، ويعنينا من الأمر هنا أنه لولا محبّتُه هذه التي حَسَّنَتْ لزملائه أن يُبادروا إلى بثّ عدد من أغانيها إحياء لذكراه لما زُجَّتْ فيروزُ في هذه الواقعة، بل لما قُدّر لهذه الواقعة أن تقع أصلا، أو في أحسن الأحوال لوقعت ولمرَّتْ مُرورَ الكرام على غرار سواها من وقائع الحظر، في الجامعة نفسها كما في سواها من المرافق العامة، التي ذُيّلَت بتوقيع حزب الله.
صحيح أنَّه كذلك، ورغم أنَّ هذه الواقعةَ تدين لفيروز بأنْ خرجت إلى العلن، وبأنْ تحوَّلَت إلى موضوع سجاليّ، فلا بدَّ مِنْ بعض التَّرَوّي في تقدير أبعادها الجوفيَّة، وأعني بذلك الأبعادَ الجاريةَ في النسيج اللبناني سواء ضجَّ السجالُ المجتمعيُّ بشأن هذه الواقعة أو تلك أو خفت. بل أكادُ أذهبُ إلى أنَّ الأقطابَ الثلاثَةَ الذين تَدورُ عليهم الواقِعَةُ التي نحن بصددها، حزب الله وفيروز والجامعة اللبنانية، كناياتٌ عن أحوال لبنانية يمكن الواحد أنْ يجد لها أشباهًا ونظائِرَ أكثر منهم أسماء أعلام.
فماذا يُسْتفادُ مِمّا جرى؟ يُسْتفادُ، ببساطة، أنَّ مساحة التَّجامُلِ بين اللبنانيين تضيق وتنكمش.
نعم، قد لا يخلو التجامل مِنْ شَيء من المراءاة (البَيْضاءِ)، بل قد لا يخلو مِنْ شَيء مِنْ قِلَّة الصّدق المُتساوي والمُتبادَل بين المتجاملين، ولكنَّ للتَّجامُل، مهما قيل فيه، فضائلُ ليس أقلَّها أنّه يُبْقي حَبْلَ الكلامِ بين أطرافه، مهما تهلهل هذا الحبل، موصولاً، أو يُزَيَّنُ لأطرافه أنه كذلك.
ليست فيروز مغنيتي المفضلة، ولا حزب الله نموذجي الأعلى في الدين أو في السياسة، ولكنّ مدار الأمر، كما تقدم، ليس على هذه المغنية ولا على ذلك التنظيم؛ مداره على ما باتَ اللبنانيون يَستهينون به من أصول التجامُل في تخاطبهم ــ بما في ذلك، بل في الطليعة من ذلك، تخاطبهم السياسيّ، وهو ما تتضافَرُ المصاديقُ عليه لأدنى مطالع لأبْخَس يومية، أو لأدنى مُستمع ـ مُشاهِدٍ لأرَثّ حوار.
شرُّ البليَّةِ في ما ذَهَبَ إليه طلابُ حزب الله مِنْ منع زملائهم من بثّ أغاني فيروز ليس أنهم فعلوا ذلك مُطمئنّين إلى ما يتمتعون به، في تلك الجامعة، من قوةٍ وبأسٍ لا يشكُّ فيهما أحد، (وسبق لهم أنْ أثبتوهما في مناسبات عديدة سابقة)، وإنما في اطمئنانهم إلى أنَّ الاعتراضَ على ما أقدموا عليه من ارْتِجالِ أنفسهم مُحْتَسبين يأمرونَ بمعروفهم هم، وينهون عن مُنْكَرِهم هم، في مكان يُفْتَرَضُ أنْ تَسْريَ عليه قوانينُ الجُمهوريَّةُ لا قواعِدُ حلالهم وحرامهم ــ في اطمئنانهم إلى أنَّ الاعتراضَ لن يَتَجاوزَ بعض الجَلَبَة الافتراضية، وإلى أنَّ آخرين، خصومًا لهم في المعتقد وفي السياسة، لن يتأخرّوا عَنْ تَلَقُّفِ ما أقْدَموا عليه هُمُ، وعن اتّخاذِهِ سابِقَةً، أو حُجَّةً إضافيةً، يُبَرّرون بها ما يذهبون إليه، أو ما قد يذهبون إليه، من فَرْضِ حلالِهِم وحرامِهِم في جامعاتٍ أو في مرافِقَ عامّةٍ أخرى.
من نكد الدنيا على المرء أنْ يجد نفسَه في مقام المُتَوَسّلِ بالتَّجامُلِ حَبْلَ نجاةٍ أخيرًا، المُعَدّدِ لفضائِلِهِ، المرافِعِ عن قَضِيَّتَه، ولكنْ أنْكَدَ منه أنْ يَتَبَيّنَ أنَّ حَبْلَ النجاةِ ذاك ــ حتى حبل النجاة ذاك ــ ليس ما يرغب كثير من اللبنانيين في الْتِماسِ طرفه وفي التَّعَلّق به، أو، أسوأ منه، أنْ يَتَبَيّنَ أنَّ قِلَّةَ التجامُلِ، وتَضييقَ المساحات المُشْترَكة، وخَصْخَصَةَ الحلال والحرام والآدابِ والأخلاق هي عِزُّ الطَّلَبِ، بل هي التَّجامُلُ بعينه!

٭ روائية وناشرة لبنانية

لبنان: عن خَصْخَصَةِ الأخْلاقِ في بلد يَضيقُ بالتجامُل

رشا الأمير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية