الأجساد اللامعة، رقصات التانغو، الحرارة التي تملأ اللوحات مع الازدحام الداخلي، كل هذه التفاصيل تخلق مناخا يحملك لأمريكا اللاتينية، لكن بهوية خاصة تظهر في ملامح الشخوص، طريقة لباسهم، مساكنهم ومدنهم، وما إلى ذلك من سماتٍ يخلقها الفنان السوري فادي مبدى العطا الله داخل أعماله.
مع فادي تستطيع أن تتدخل الحياة اليومية الطبيعية، يمسك يدك ويدخلك إلى بيتٍ يشبه بيتك في الكثير من أغراضه، لكنه يحمل بين جدرانه عالما مختلفا. يتيح لك فادي التعرّف عليه بدقة شديدة، فالمفروشات حاضرة، سرير، كنبة، طاولة، مزهرية، عناصر إضاءة، تلفاز، سجاد، وسائد، وما إلى ذلك من عناصر مشابهة لما تصادفه بشكلٍ طبيعي.
الثياب عنصر مميّز في اللوحات، فنجد الرسومات الموجودة على الأقمشة (زهور، نقاط أو أقلام ملوّنة) ونلاحظ التنوع ما بين الفساتين والسراويل، البدلات الرسمية مع ربطات العنق أو الثياب الداخلية، العنصر الأساسي بين الثياب هي الجوارب الملوّنة بمربعات وخطوط ونقاط.
الألعاب التي لم تعد حكرا على الأطفال في أعمال فادي (اللعبة المتدلية من النافذة، الكرة الملونة بين يدي القطة والقطار الخشبي الذي يمسكه رجل يذكّرنا برجل بيكاسو عائد من مرحلته الزرقاء) الجميع يستطيع اللعب بدلا من أن يكون دمية.
كما يمكنك أن تتسلل إلى مشاهد غاية في الحميميّة، وكأن العين السّاحرة تكبر أمامك وتمنحك مجالاتٍ واسعة للرؤية، فتجد امرأة تستحم، مستلقية كالحورية ضمن مياه المغطس ترقد على جانبها الأيسر في معزلٍ عن العيون باستثنائنا نحن وهرٌ شارد في الضوء، أخرى تصنع فطورها بثيابها الداخلية، تقلي البيض وعينها تجنح بالشرود، هرٌ آخر يحدّق بنا؛ رجلٌ وامرأة بعد انتهاء العلاقة الخاصة، كلٌّ يجلس على طرفٍ من السرير باستسلام، الرجل يبدو باردا بعكس المرأة التي تمشّط شعرها تحت الحزمة الضوئية؛ على الشّرفة نجد عناقا حارا مع قبلة تطلّ عى ساحة المدينة بتمثال يمزج بين (النصر المجنح) و(فينوس) وبرج إيفل، الطائرات الورقية تحوم في المحيط والهدوء يرخي أسداله حتى يغيب عن تفكيرنا الرجل المنتظر للتاكسي حتى تسمّرت يده في مكانها. الأشخاص الكثر في الساحة متناهو الصغر وفق المنظور الذي يحتل مكانة عالية في أعمال فادي» مبدى، خصوصا في تصوير المدن خارج إطار النافذة. ويتضح هذا المفهوم أكثر في اللقطات العلوية بما يُسمى منظور عين الطائر، لكن فادي يعمد إلى تطويع المنظور وفق رؤيته الخاصة فيسطحه حينا ويشوّهه حينا مبتعدا عن دقة الفراغات الهندسية، ومن هنا سمى مجموعته الأخيرة «خارج الأبعاد».
تنقّل «فادي» بين عدة مدارس فنية وعدة مواضيع، فكان لفترة ما يرسم الطبيعة النرويجية أو البورتريهات، وكذلك تنقّل بين الخامات فرسم على الزجاج، البلكسي والبلاستيك أيضا. بالعودة إلى المشاهد اليومية التي يحبسها فادي ضمن لوحته نجد حفل جاز وشت به الآلات الموسيقية (غيتار، ساكسفون، ترومبيت وبيانو…) ومجموعة الراقصين في ساحة المكان مرة مع جمهورٍ يراقب تموّجهم، وأخرى تمنحنا حظ أن نكون نحن الجمهور؛ حالة سكرٍ كانت موجودة في عملٍ آخر هم ضحية النبيذ الأحمر الذي يملأ الطاولة بصحبة البيرة والسمك مع الليمون والبصل، زجاجات المشروبات الروحيّة تشغل خلفية اللوحة.
في إحدى اللوحات نجد عارية تمد يدها للأعلى لتلتقط صورة لجسدها المتلألئ كما بقية الأجساد اليانعة اللماعة، وكأنها قطفت مؤخرا من شجرة الآلهة، التي تبدو في بعض اللوحات وكأنها تشّع نورا، خاصة إذا كانت تقبع تحت منبع النور مباشرة؛ الأضواء قوية واضحة تحدد لنا مسار الرؤية وكأنها ترتب الأولويات ضمن اللوحة، فانتباه المتلقي للعمل في المرتبة الأولى سيكون من نصيب المناطق المضاءة، متنقلا بينها بحسب سطوع سطوحها، وبالدرجة الثانية سيحاول استطلاع المناطق القاتمة القابعة في الظّل، فالضوء هنا لون في المقام الأول، التدرج غير واضح لا وسطيّة عند فادي، إما ضوء أو ظل، ألوانٌ حارة تصاحب الضوء (أصفر، برتقالي، أحمر) وتزيد وهجه، وإما ألوانٌ باردة (أزرق، كحلي، بنفسجي) تمنح الظل برودا يفوق برودة غياب الضوء، لكن في كلا الحالتين الألوان واضحة قوية وكثيفة وهي موجودة حتى في الخطوط الخارجية المحددة للشكل -عادة ما تحدد بالأسود- الألوان العنصر الأول في تحديد المناخ العام للوحة، بين حزن يلفّ النساء الوحيدات وما بين فرح يمتدّ ضمن الحفلات.
اللوحة تصل حدّ الإشباع اللوني فلا مكان لضربة ريشةٍ إضافية، فهي مليئة بالتفاصيل والزخارف المنوّعة شكليا ولونيا والتي لا تمنح للفراغ مكانا للاختباء، فنجد العمل ممتلئا بشكلٍ كامل. نستطيع تناول العناصر الموجودة ضمن الأعمال ببراءة والابتعاد عن التأويل، فهل للمنشار رمزيّة معيّنة، حوض السمك، الصنبور المفتوح وماكينة الخياطة.. كلّها عناصر تحرّك الأسئلة داخلنا؛ يرسمها مبدى بكثيرٍ من الدقة، فهي مليئة بتفاصيل تحتاج حنكة مكثّفة يمتلكها فادي، كيف لا وهو رسّام أيقونات وله عدة لوحات بطريقة تمبرا البيض (التمبرا هي طريقة بالتلوين تعتمد على خلط الصباغ اللوني مع مادة صمغية وفي الأغلب تكون البيض وهذه الطريقة في التلوين مستخدمة منذ القرن الأول الميلادي ومستمرة إلى الآن) وقد زاد اهتمامه بالأيقونة السّورية البيزنطية بعد الأحداث في سوريا وشعر بالمسؤولية كفنان للحفاظ على التراث الذي من الممكن أن يُفقد في الحرب.
الحزن والكآبة هما السمة المشتركة بين أغلب الشخوص؛ نساء ورجالا، لكن للنساء النصيب الأكبر في الأعمال، هنّ إما وحيدات وإما بصحبة صديق في الأغلب، هو من القطط، قطة، قطتين أو ثلاث قطط أحيانا، ربما كلب، حمامات بيضاء أو غربان تطلّ كمراقبٍ خارجيٍّ للأحداث؛ اللوحة دوما تملك شاهدا على ما يدور داخلها، مرآة، ضوءا، حيوانا.. أو مشاهدين يقفون على الضفة الأخرى من اللوحة، يحيكون قصصا مناسبة ويتأملون اللوحة بانتظار لحظة نهاية لا تأتي.
٭ فادي مبدى العطا الله مواليد 1972 درس في كلية الفنون الجميلة في دمشق وتخرّج فيها عام 1998 يعيش في النرويج. أقام عدة معارض في ألمانيا، السويد والنرويج… أولها كان في روتردام/هولندا الذي يعتبره فادي المعرض الأهم.
شارك في معارض جماعية في الوطن العربي لكن معرضه الفردي الأول سيكون في نيسان/ابريل المقبل في بيروت.
بسمة شيخو