الناصرة : «القدس العربي»: تحاول المحاضرة والباحثة في الأدب العربي كوثر جابر من مدينة سخنين داخل أراضي 48 إنصاف الكاتب والأديب الفلسطيني توفيق فياض، وتحديدا روايته «المشوهون» بعد نصف قرن ونيف من صدورها، وتعرضها لهجمة شرسة وقتها لاعتبارها خدشا للحياء والتقاليد الاجتماعية. جاء ذلك ضمن مؤتمر بعنوان «الناصرة المدينة الجوهرة» شارك فيه عدد كبير من الباحثين الفلسطينيين والأجانب بمحاضرات حول تاريخ مدينة البشارة في مجالات متنوعة. وكرسّت جابر محاضرتها لرواية «المشوهون» للكاتب توفيق فياض الذي عاد للوطن قبل نحو عامين، بعدما ترك قريته المقيبلة داخل أراضي 48 ملتحقا بمنظمة التحرير الفلسطينية قبل نحو أربعة عقود.
هذه الرواية التي ولدت بعد النكبة وتحت ظل الحكم العسكري الإسرائيلي وحركة أدبية ناشئة أصدر فياض رواية «المشوهون» عام 1964. الرواية تسلط الضوء على شخصية سعيد وهو طالب من القرى المجاورة وفد لمدينة الناصرة لاستكمال دراسته الثانوية، يواجه الغربة وما يلبث أن يتعرف على نادية جارته في السكن فيقيم معها علاقة حميمية في ظل عمل زوجها بعيدا عن البيت. وفي الوقت نفسه يقع سعيد في حب زميلته الفتاة النصراوية نوار المقيمة في الحي النمساوي في الناصرة، ويقيم معها أيضا علاقات جنسية قبل أن يسأم منها فتنتهي العلاقة بانقطاع نوار عن الدراسة بعدما عرف أهلها بما حدث.
بين الجارة والزميلة
ويعود سعيد لجارته ناديا التي تؤكد أنها حملت منه. وتوضح جابر أن الرواية هذه طرحت ثيمات متعددة في الروايات العربية المشهورة، منها الصراع بين القرية والمدينة، وحالة الاغتراب لدى الفرد. وللتدليل على معاناة سعيد في المدينة وشوقه للقرية تقتبس ما جاء على لسانه في الرواية، التي تجمع الواقع والخيال: «لماذا موجود أنا هنا؟ في هذه المدينة أعيش وحدي. يجوع والداي كي يوفرا لي أجر غرفتي. يعرى إخوتي هناك في القرية لأرتدي الملابس أنا.
إني أواصل تحصيلي! كنت أضحك من نفسي كلما فكرت بذلك؟ أما الثيمة الثانية في الرواية فتكمن في الموقف السلبي من المدينة ويبين فيها الكاتب برأي جابر التشوه في مختلف مناحي الحياة فيرى سعيد حياة الناصرة مليئة بالزيف والرياء.
لا توجد زانية
واحدة في المدينة
وتابعت جابر في محاضرتها «كما تحتل قضية الجنس مكانا مركزيا في الرواية، إذ تنفتح على عالم الجنس في المدينة بتناقضاته المختلفة ويصورها الكاتب على أنها ممارسات مشوهة يختلط فيها الحب بالانتهازية، ممارسات يفعلها الناس في الظلام ولا يبوحون بها في النهار والعلاقات بين الرجال وبين النساء مشوهة تقوم على التضليل. بالمقابل يقول سعيد في الرواية: «لعنت المدينة بصوت مرتفع لا يوجد فيها ماخور واحد.. كنائس ومساجد ثم كنائس.. يصعب على الطلاب العثور على زانية في هذه المدينة.. مواخيرهن في بيوتهن. لم اضطجع بعد مع إمرأة ويجب أن أفعل ذلك. صوت موت رهيب يخيم على المدينة.. شعرت بالاشمئزاز». وتستذكر جابر الهجوم الشرس الذي تعرض له الكاتب والرواية بعد صدورها وقتها واعتبرها كثيرون «زلة أدبية». وكان الكاتب عيسى لوباني وقتها قد دعا لتعليق الرواية على عمود وإحراقها، فيما كاد آخرون يدعون لتعليق أو شنق الكاتب. ونقلت جابر عن فياض قوله إنه خرج وسميح القاسم يوما من مقهى «أبو ماهر» في الناصرة فبادر رجل من الحي الشرقي واعتدى على سميح بالضرب فما كان من سميح إلا قال: أنا سميح وذاك توفيق ولكن دير بالك فهو يحمل خنجرا أتى به من المقيبلة فهرب!
عاتب على محمود وسميح
وترى أن عاملين سببا رفض الرواية وقتذاك وهما الاجتماعي المتعلق بالمجتمع الفلسطيني المحافظ والسياسي، لأن موضوع الرواية بدا مغايرا للنغمة التي سادت الأدب الفلسطيني المقاوم في فلسطين. وتستذكر جابر أن قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي وقفوا بالمرصاد للرواية بعدما رأوها خارجة عن أيديولوجيتهم وفكرهم الملتزم، خاصة أن الفكر الماركسي يرى الأدب انعكاسا للواقع ومرتبطا بالأيديولوجيا. بالمقابل تقول جابر وهي ابنة شقيقة توفيق فياض إن إميل توما لم يكتب حرفا عن «المشوهون» رغم كونه كاتبا ناقدا أدبيا لامعا. وماذا عن صديقي الكاتب محمود درويش وسميح القاسم اللذين انتسبا للحزب الشيوعي وقتها وسكنوا معا ويقرأون نصوص بعضهم بعضا معا ويبدون آرائهم فيها قبيل نشرها؟ وتكشف جابر استنادا لمذكرات أولية لم تنشر لتوفيق فياض أنه كان عاتبا عليهما لصمتهما. يقول فياض: «أصدقائي المقربون كسميح القاسم ومحمود درويش لم يحركوا ساكنا ضد التحريض سوى صديقي سالم جبران. وقد كنا رباعيا لا نفترق، حيث شكلنا حالة أدبية خاصة في حيفا. جبران كان من القلائل ممن تصدوا للهجوم كتب في مجلة «الجديد» الحيفاوية مقالا بعنوان «صدق توفيق فياض نحن مشوهون».
روايات إحسان عبد القدوس
وتلمح جابر إلى أن محمود وسميح فضلا عدم العوم ضد التيار الشيوعي الذي انتميا له مبكرا في ريعان شبابهما وتلاحظ أيضا أن المؤسسة النقدية الرسمية في فلسطين رفضت هذا الأدب، ومن أجل إنصاف توفيق فياض تقتبس دفاع رئيس مجمع اللغة العربية محمود غنايم بقوله، لماذا لم يتعامل القارئ العادي والمؤسسة النقدية مع الروايات العربية مثل روايات إحسان عبد القدوس التي تعتبر قصص الحب والجنس موتيفا شائعا بالمقياس نفسه؟ وخلصت للقول لـ«القدس العربي» إن «المشوهون» بالذات هي التي حققت الشهرة لتوفيق فياض وتستذكر أنها طبعت وقتها في الطبعة الأولى خمسة آلاف نسخة ونفدت بوقت قصير وتابعت هذا يؤكد مقولة الكاتب حول التشوه حينما جرؤ على كسر التابوهات وتطرق لأحد أركان الثالوث المحرم: الجنس، الدين والسياسة. وخلصت للقول في سياق تطييبها لتوفيق فياض: «إذا كان الظلام قد فرض علينا فلماذا لا نضيء طريقنا؟ إننا جبناء». ويبدو أن الرواية ليست سهلة الهضم حتى اليوم فقد أثارت محاضرة جابر لغطا وجدلا واسعين خلال المؤتمر المذكور واحتجت حتى الكاتبة نهى زعرب بقولها إن النصراويات لسن مومسات ولا بيوتهن مواخير.. وأضاف طالب دكتوراه في جامعة حيفا حسين منصور إن الناصرة مختلفة تماما من صورتها في الرواية لكونها متماسكة بالتقاليد والمحافظة وتابع «في 1810 ألفى أهالي الناصرة على زانية في المدينة فقتلوها وألقوا بها في مزبلة البلد لتكون عبرة «. وعقبت جابر بالقول إن جمالية الأدب تتحقق من خلال دمج الواقع بالخيال وأن توفيق فياض لم يكتب تاريخ مدينة الناصرة مشددة على كون «المشوهون» رواية أدبية.