لماذا لم تعد الشمس تضيء شراذم حروب بديلة عن حروب عالمية؟

حجم الخط
0

ليست الطبقات الحاكمة العربية هي وحدها التي تشهر افلاسها السياسي على الملأ، وتعلن عن خواء جعبتها من أية حلول ممكنة لمعضلات الواقع.. ليس النظام السلطوي هو المتهرب من الإقرار بعجزه حتى عن بقية إدارة لسلطانه المتدهور، فالخواء السياسي الراهن لم يعد يخفي طرفاً في أية معادلة لحساب آخر صاعد أو جديد. بل هو الخواء الذي يقوّض العلاقة الضدية في وقت واحد.
إضطرابات الواقع السلطوي للعرب برهنت حتى اليوم بأنها لا تقدم لشعوبها إلا ألعاب بدائل بهلوانية عن بعضها. تتناول نماذج منها كيما تعود لترفضها في مناسبة أخرى، ثم تعود إلى تكرار دورات العبث السابقة، هذا لا يعني أن الحياة السياسية هي سلسلة حديدية صارمة وأنه لا مجال لصدف من التاريخ ولا لمفاجآته كذلك، بل ربما كان الأمر على عكس ذلك تماماً.. بل ربما كان التاريخ هو الذي يجرفنا بأحداثه المتلاحقة، ونحن نجري وراءه لنلتقط منه بعض بصماته المتناثرة. قد يتساءل بعض مفكري الكوارث الإنسانية الكبرى أن كانت صناعة الخير ليست دائماً نتاجاً لذاتها، بل لعلها قد تكون من ألغاز الشر ذاته. ألم يكن شائعاً في دعاية الحرب الباردة إتهام الغرب بكونه يضخم من نظرية اختلاق أخطار (العدو) كيما يضاعف من قوى التحريض على العنف والاستثمار في القتل واللاجدوى.
غير أنه مع انقضاء دورات الحروب العالمية الكبرى أصبح من العسير تفجير نوع تلك المقتلات الهائلة بحسب صفاتها الكونية المتعارف عليها دولياً. فما يعوض عن تلك المهالك الملحمية هو نظام الحروب، الصغرى والمقطّعة الأوصال؛ هكذا تتوزع بؤر النيران فيما بينها، يوقد أو يطفئ بعضها بعضاً. فالبدائل عن الحروب الدولية الشاملة باتت أشبه ببقع الزيت اللاهبة المسفوحة على السطوح المتعرجة هنا وهناك، فلا يتبقى مما كان يسمى بعالم التاريخ سوى تنويعات إعصارية قد تثور أحياناً وقد تختنق برمالها في النهاية.
لا يدري بها أحد لماذا تثور ولماذا تخمد ما دام مصيرها جميعها هو هذا السكون، هذا الصمت الموحش.. فهل حقاً أصبح الغرب كارهاً لسياسة الحروب الإقليمية منها أو الدولية؛ هل استطاع الغرب ولو لمرة واحدة أن يطوي عصر الحروب العالمية بحيث يُمسي من ذكريات ماضي الهمجية البائدة لمرحلة ما قبل بزوغ المدنية بحسب مواصفاتها الغربية المتداولة فهذا لا يثبت، كما لا ينفي أن الهمجية مرحلة عابرة من مراحل تكوين الثقافة، بمعنى أن الهمجية ليست مرضاً حضارياً عارضاً ولا تحريفاً لخط التطور الصاعد دائماً. كذلك يرفض فلاسفة التاريخ اعتبار الهمجية عنصراً مؤسساً لما يصطلح عليه باسم الطبيعة البشرية. فالوجدان الأخلاقي العام لا يزال منزّهاً كفةَ الخير على ما يصنفه بمستودع الشرور النائمة، والتي كلما طال غيابها المادي عن مسارح الأحداث، كلما تأصلت جذورها وتجددت وسائلها أكثر.
واليوم تحفل مسارح الحياة العامة لشعوب العرب والإسلام بشواهد مريعة عن فظائع الشرور الرهيبة، وكأن الحضارة ولدت بالأمس فقط، وأنها ما زالت مفعمة بأخطر غرائزها الحيوانية الخالصة. ولعل المفجع خاصة هو في المشاهد الملونة بأسماء وسفارات (الجهاديين) من كل صنف ولون من عصائب الشعارات اللفظوية الخاوية ههنا لم تعد المذاهب السياسية أو الإيديولوجية قادرة على تحوير أو تغيير حرفيات بغير دلالاتها المباشرة. ولذلك لم تعد ثمة فوائد تذكر في إخفاء حقائق الأشياء، فالفجور في المعاني أسقط هالات الإغراءات البيانية وسواها حق التوسل بغيبيات الأدعية والطقوس أفقدها التدين المبتذل جاذبيتها الصوفية. فجعلها أقرب إلى اللفظويات السحرية البهلوانية.
إنه فجور الفظائع الذي أبطل سريعاً كل غواية لأسرار المعاني وجاذبيات العقائد. ولقد تساوت كل حصائل الأفكار سوّت بين جديدها وقديمها. أضحت (الحياة السياسية) مضجرة إلى حد ما. وأما الأفعال الكبيرة فإنها فقدت حرافتها.
في مثل هذه الأجواء يمكن لأكبر النتائج السياسية أن تمر بالرأي العام مروراً عابرا، تخسر أشياء الحياة اليومية قدرتها على الإثارة أياً كانت إيجابية أو سلبية، فليس عجيباً إذن أن يرى العربي ويسمع كل صباح عشرات أو مئات من القتلى والمشوهين والمهجرين و(المجروفين). مثل هذه الأخبار اليومية لا تزرع عادات التلاؤم مع المهالك، بل هي التي تجعل هذه الفواجع أشبه بالحالة الطبيعية وليس العكس.
لقد استنزف العرب المعاصرون كل نوعيات الثورات والحروب والمذابح وامتهن بعضهم كل حرف الغدر والبطش ببعضهم. لقد حاربوا وقاتلوا الحروب، لقد ثاروا وذبحوا الثورات. لقد جاع كثيرهم وأكل بعضهم لحم أخيه. لقد ناموا طويلاً وصحوا على مختلف أهازيج الموت والطغيان. لقد شارك معظمهم في إعادة تأليف رواية البؤساء عشرات المرات..
إنها قصة الحقبة الستينية السبعينية ملأت ضجيج الصحارى بزوابع الرمال الصفراء وحدها. إنها الحقبة المشؤومة التي داستها ومشت عليها نعال الأقدام الحافية من مئات ومئات السنوات. لكن الأقدام الحافية قلما تترك آثارها على حبات الرمال الصفراء البكماء. ومع ذلك فكل عوالم هذه الصحارى الهائلة لا تزال هامدة خامدة بانتظار أن ينشق الجحيم الارضي، وينفجر عن واحة الماء الزلال التائهة ما بين الأرض والسماء.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية