■ أمس صوّت البرلمانيون البريطانيون بالأغلبية للاعتراف بدولة فلسطينية. ورغم قيمة التصويت الرمزية وعدم تأثيره المباشر على موقف الحكومة البريطانية الراهنة إلا ان القرار يعد معلما مهما في تطور السياسة البريطانية والأوروبية تجاه الفلسطينيين. يأتي ذلك في أعقاب التعهد الذي صدر مؤخراً عن الحكومة السويدية الجديدة بانها ستعترف بدولة فلسطين.
ورغم عدم وجود علاقة بين هاتين الخطوتين إلا انهما نتاج لظاهرة واحدة، وهي – تحديداً- التحول الآخذ في التزايد في الرأي العام داخل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لصالح تطلعات الفلسطينيين. وبهذا يبقى الصراع الإسرائيلي/ الفلسطيني القضية الأبرز على صعيد السياسة الخارجية، حتى عند مقارنتها بالحرب الأهلية الدائرة في سوريا أو الأزمة الحالية التي تسبب بها داعش، وهذا ما أثبتته شعوب أوروبا. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال اجتذبت التظاهرات المناوئة للعمليات العسكرية الإسرائيلية خلال الحرب الأخيرة في غزة أكثر من 100000 متظاهر بحسب التقارير، فيما طبق المستهلكون البريطانيون إجراءات دفعت المتاجر هناك إلى سحب منتجات المستوطنات من رفوفها. كما ان الأوروبيين مستاؤون من سياسات حكوماتهم تجاه هذا الصراع، حيث استحوذت هذه القضية على غالبية الأسئلة التي طرحها جمهور الناخبين البريطانيين على نوابهم في البرلمان في مجال السياسة الخارجية.
لكن هذا لا يعني ان الأوروبيين مجمعون في آرائهم بشأن دعمهم للفلسطينيين، بل لا يزال يفصــــلهم عن مـــــثل هذا الإجماع شوط بعيد.
وبحسب استطلاع يو غوف (You Gov) حول اتجاهات التعاطف الشعبي في بريطــــانيا وفرنسا، الذي أُجري في 5 أغسطس/آب 2014، لم تتعاطــــف غالبية جمهور البلدين مع أي من الطرفين، في حين تعاطفت ما نسبته 18٪ و27٪ فقط من جمهور الذين استُطلعت آراؤهم في فرنسا وبريطانيا، على الترتيب، مع الفلسطينيين. ومع ذلك ظلت هذه النسبة أعلى من نسبة المتعاطفين أكثر مع الإسرائيليين التي بلغت 11٪ و12٪ في البلدين، على الترتيب.
ويظل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بالفعل قضية خلافية تسبب انقساماً في المواقف تفضّل الحكومات الأوروبية حيالها تحاشي اتخاذ قرارات صعبة قد يتبيّن انها مكلفة سياسياً، لصالح إدارة الوضع الراهن. والنتيجة هي انسداد في الأفق السياسي، الأمر الذي أدى إلى إصابة قسم كبير من دوائر صنع القرار الأوروبي بالشلل تجاه هذا الصراع.
لقد أثّر التأييد المتزايد في صفوف الجماهير الأوروبية لصالح إقامة دولة فلسطينية على حكومات بلادها، وهي حكومات على الرغم من تخلفها عن ركب شعوبها في هذا الصدد إلا انها نحت المنحى ذاته. تخضع الحكومات المنتخبة للمساءلة من قبل جمهور ناخبيها، لذا فإن هذه الحكومات ستتصرف إذا كان هناك ضغط كافٍ من هذه الجماهير. كما انه ليس بمقدور هذه الحكومات ان تنأى بعيداً إلى هذا الحد عن الإجماع الشعبي. ومن الأمثلة المعبرة عن ذلك ما حدث في إيطاليا عند التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على الاعتراف بالفلسطينيين عام 2012، حيث كان رئيس الوزراء آنذاك، ماريو مونتي، يميل إلى الامتناع عن التصويت، لكنه تحت الضغط الشعبي وضغط الحكام المحليين والقيادات السياسية غير التصويت إلى نعم في غضون 24 ساعة.
ما يحدث الآن في بريطانيا والسويد قد يجري استنساخه، إذن، في دول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي في المستقبل.
بيد انه من اللافت ان يحدث هذا التحول لصالح القضية الفلسطينية في ظل غياب شبه تام للجهود الفلسطينية الدبلوماسية والدعائية لشرح وجهة النظر الفلسطينية، أي استراتيجية فعالة من قبل القيادة الفلسطينية للتواصل مع صناع السياسات الأوروبيين وجمهورهم. ان الأوروبيين يتفهمون المحنة الفلسطينية ويتعاطفون معها، غير ان ذلك وحده غير كافٍ. لقد أظهر الأوروبيون التزاماً واضحاً بإقامة الدولة الفلسطينية، لكن ذلك لن يُترجم إلى مقاربة بريطانية أو أوروبية جديدة للصراع. فلا تتوقع من الأوروبيين ان يكونوا أكثر فلسطينية من القيادة الفلسطينية.
ونحن لا نقول هنا انه يتعين على استراتيجية الاتصال العامة الفلسطينية الجديدة ان تتعامل فقط مع الجمهور الأوروبي. ويقر الكثير من الدبلوماسيين الأوروبيين في مجالسهم الخاصة، وبانتظام، انهم يتمنون لو ان الفلسطينيين يضعونهم تحت ضغط أكبر من خلال التقدم بطلبات مادية محددة منهم. إذن، ما الذي يمكن لأوروبا ان تفعله في الواقع ويطلبه الفلسطينيون؟
في الصيف الماضي، نشر الاتحاد الأوروبي مجموعة من المبادئ التوجيهية تحظر على الكيانات الإسرائيلية الواقعة خارج الخط الأخضر لعام 1967 تلقي أي أموال من الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ان تلك الخطوة لا تشكل بحد ذاتها سياسة جديدة – إذ ثابر الاتحاد الأوروبي على رفضه لشرعية المستوطنات الإسرائيلية – إلا انها تعد خطوة مهمة على صعيد التأكيد على تطبيق الاتحاد الأوروبي لقوانينه وأنظمته في تعاملاته الثنائية مع إسرائيل. كما ان هذه المبادئ التوجيهية فتحت المجال لمجموعة من المبادرات الجديدة على مستوى الاتحاد الأوروبي ومستوى الدول الأعضاء على حد سواء للتفريق بين إسرائيل ومستوطناتها، من قبيل العمل بإجراءات وضع علامات إجبارية تميز منتجات المستوطنات مما ينبه الشركات، وتحذير مخاطر التعامل تجارياً مع كيانات إسرائيلية على صلة بالاحتلال. ورغم مضي سنة كاملة على هذه الإجراءات، إلا انه لم يتم تطبيقها على الأغلب بسبب انعدام الشهية السياسية والزخم المؤسساتي. ومن هنا، ثمة دور مهم ينبغي على الفلسطينيين ان يؤدوه في لفت الانتباه إلى تلك الأدوات السياسية والمطالبة بأن تتطابق سياسات الاتحاد الأوروبي مع أفعاله.
ثانياً، تطبيق القانون الدولي له أهميته، وبالتالي فإن التحقيق الذي ستجريه الأمم المتحدة حول حرب غزة يشكل وسيلة من شأنها تعزيز المساءلة، فيما تشكل المصادقة الفلسطينية على اتفاقية روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية وسيلة أخرى. فكيف سيتسنى للاتحاد الأوروبي إذن شرح التناقض بين دعمه للأعراف الدولية ومعارضته في الوقت ذاته لأي خطوات فلسطينية للذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية التي هي من بنات أفكار أوروبا؟ أوروبا عبارة عن مجتمع قائم على القانون، وهذا عنصر ينبغي ألا يفوت صناع السياسة الفلسطينية الانتباه إليه، بيد ان القانون وُجد كي يُستخدم في المحاكم لا ليكون عنصراً للغو والخطابة.
ثالثاً، أكد الاتحاد الأوروبي مراراً في العديد من بياناته على أهمية المنطقة (ج) بالنسبة لتطور الدولة الفلسطينية وبيانات الاتحاد الأوروبي ليست مجرد سياسة لإصدار إعلانات، بل هي توجيهات صادرة إلى السلك الدبلوماسي للاتحاد الأوروبي الذي يتصرف بناء عليها. أضف إلى ذلك، ان التدمير الإسرائيلي المستمر للبنية التحتية التي بُنيت بأموال المانحين في المنطقة (ج) لن يمر بدون ان يقف عليه أحد. ومع ذلك، يبدو واضحاً ان هذا لا يمثل أولوية بالنسبة لجهود حشد التأييد التي تبذلها القيادة الفلسطينية في أوروبا.
لقد لعبت أوروبا دوراً هامشياً إلى حد بعيد خلال عملية السلام التي تزعمتها الولايات المتحدة، وينبغي ألا يعتري الفلسطينيون أي أوهام بأن الاتحاد الأوروبي يمكن ان يكون بديلاً عن الولايات المتحدة. ان قوة النفوذ الأوروبي ضد إسرائيل لا تُقارن بقوة النفوذ التي تمتلكها الولايات المتحدة، ولكن على الرغم من ذلك، يمكن لأوروبا – إذا ما مورس عليها الضغط – ان تغيّر من حسابات الربح والخسارة للاحتلال الإسرائيلي. وفي سبيل القيام بذلك، فان اللغة القاسية التي استخدمها الرئيس عباس في الأمم المتحدة سيكون لها أثر عكسي، خاصة عندما تكون مصحوبة بسياسات منظمة التحرير الفلسطينية القائمة على فعل القليل لتغيير الوضع الراهن. ان أوروبا عبارة عن مجتمع قائم على القانون الدولي وينبغي على القيادة الفلسطينية ان تستغل هذه الناحية لصالحها مع التحدث بوضوح أكبر مع كل من صناع السياسات الأوروبية والجمهور الأوروبي العريض في استراتيجيتها الجديدة في تدويل الصراع على أساس الحقوق الفلسطينية.
٭ ماتيا توالدو زميل في مجال السياسات ببرنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية/ متخصص في موضوع الصراع الإسرائيلي/ الفلسطيني. ويعمل توالدو منذ عام 2004 على عملية السلام في الشرق الأوسط كباحث ومستشار في مجال السياسات.
٭ هيو لوفات، منسق مشروع إسرائيل/ فلسطين في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. وقد عمل في السابق لدى البرلمان الأوروبي على سياسة الشرق الأوسط
هيو لوفات وماتيا توالدو