محمد الضبع… يُترجم لينشّط شاعريته!

منذ سنوات عُرف محمد الضبع بخياناته الجميلة، التي يبثها بين آونة وأخرى عبر مدونته الشهيرة «معطف فوق سرير العالم»، التي جاء في عنوانها الفرعي التفسيري (أترجم كل أسبوع للحفاظ على لياقة الحياة).
وقد لفت الانتباه إلى اختياراته الفريدة، عندما نشر ترجمة لكاتب مجهول «أخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة». ومنذها صارت مدونته محل اهتمام المتابعين. من خلال ميثاق القراءة بينه وبين القراء الذي نشأ وتطور على إيقاع منتخبات ثقافية نادرة ومؤلبة، حتى صارت له بصمته الخاصة، ليس في طريقة ترجمته للمواد وحسب، بل في انتقائه وإعداده الفني لها أيضاً.
هذه المختارات المتراكمة في مدونته الصغيرة المبعثرة في أرجاء الشبكة العنكبوتية دخلت أخيراً حيز الكتاب، واتخذت شكل الإصدار القابل للقراءة والدرس، وذلك من خلال أضمومتين منفصلتين. وقد صدرتا ككتابين: الأضمومة الأولى بعنوان «أخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة». صادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون بالتعاون مع نادي جازان الأدبي. والثانية بعنوان «قصائد آخر ليلة على كوكب الأرض» صادرة عن دار مسعى للنشر والتوزيع.
وقد اشــتمل الكتاب الأول على عناوين تؤكد براعته في نبش الإرث الأدبي العالمي، منها «القبلة: من جوع الإنسان الأول حتى سيجارة سارتر» لشيريل كيرشينام ويليام كين. و»لا يمكنك الحفاظ على شخص يريد المغادرة. هل تفهم؟» لساره ڤولدينق. و»رسائل حب شهيرة « لسارتر ونابليون وتولستوي. و»راي برادبيري: رحل في بذلة آيس كريم رائعة» حوار سام ويللر. و»لماذا لا أستطيع قراءة كافكا في الصباح» لجوزيف أپستين. و»أسطورة خلق كوكا كولا» لتوم ستاندج و»أحب نطقك لحروف العلة» لفلاديمير نابوكوف و»كيف تحول قلبك الجريح إلى قنبلة مولوتوف حارقة» لپاتريك ليندر و»رسالة طالبة في الثانوية إلى جورج أوريل لديڤي آتشاريا و»الروائي العداء» لهاروكي موراكامي وغيرها من العناوين والموضوعات المثيرة.
أما الكتاب الثاني فهو عبارة عن منتخبات شعرية لتشارلز بوكوفسكي «ضاحكاً مع الآلهة». ومارين سوريسكو «أكبر بيضة في العالم» وماري أوليفر «عن السفر إلى أماكن جميلة». وهي عناوين ليست من عندياته، بل منقولة بأمانة وحرفية من مصدرها، حيث استمد ترجماته من مجموعات شعرية وصحف ومجلات ودوريات أدبية بمرئياته ومزاجه الخاص. كما يشير تطوافه حول أسماء مثل البير كامو وسارتر وبوكوفسكي وأناييس نن ونابوكوف وهنري ميللر وموراكامي وبالدوين وسيمون دوبوڤوار وفرجينيا وولف وبوروس وبرادبيري وغيرهم، إلى المدار الذي يتحرك فيه وينتقي منه مادته.
الترجمة بالنسبة لمحمد الضبع، كما يبدو من فرادة اختياراته وبراعة صياغاته، ليست مجرد عملية لغوية، بل كتابة أدبية وقودها اللذة. فهو بقدر ما يتبع الأثر الحرفي للنص، يراعي ظلاله الدلالية والإيحائية. كما يؤكد بقوة على البعد الجمالي فيه. بمعناه وطاقته الشاعرية، حيث يدل ذلك الكم من المنتخبات على وقوفه التأويلي الطويل قبالة النص قبل نقله إلى العربية. واستيعاب نظامه الداخلي وبنيته، وكأنه يقيم علاقة تفاوضية مع كل عناصره. ولهذا السبب يبدو أثره قويا لدى القارئ، حيث تحضر ذاته الكاتبة من خلال لمساته الشخصية على النص.
ويتأكد هذا الهاجس بشكل أوضح عند فحص المواد المترجمة، فكل الأسماء الواردة معروفة عربياً، وقد تمت ترجمتها في مختلف الحقول الأدبية إلا أن محمد الضبع لا يميل إلى ترجمة ما تمت ترجمته. ولا يتعامل مع هذه الأسماء ككتلة، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي. بل ينبش في الجانب الحميمي التفصيلي المتعلق بهم كأدباء وكأشخاص، وينقل من دوائر الآخر ما لم يتم تداوله كحالة ثقافية، وكأنه يترجم في حيز القراءة أو يقرأ بقصد الترجمة. بمعنى أنه يقدم الجانب الإنساني الغائب أو الناقص من صورة أولئك الذين نعرفهم كروائيين وكشعراء، إلى جانب وجودهم الأدبي.
وعلى الرغم من التبعثر الموضوعاتي والأدائي في كتاب «أخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة» إلا أن ذلك التنافر الشكلي يتجانس في مصهر الثقافة، فالنص هو الجامع لكل تلك الموضوعات والقوالب الكتابية، حيث لا تبدو الأسوار عالية ما بين النص الشعري والمقتطف الروائي واللقاء الصحافي والرسائل، وكأنها داخل بناء يقوم على الإضافة في ما بينها وليس التصارع والتضاد. وهو إحساس يمكن ردّه إلى قدرة محمد الضبع على توليف المادة المنتقاة ضمن سياق جمالي يحمل بصمته الشخصية وترتيبها في سيناريوهات جذابة.
إن ما أنجزه محمد الضبع في حقل الترجمة، وضمن هذا التوجه، يمكن التعامل معه كدراسة لنص له مواصفات خاصة.. وهو إنما استصفى من النصوص ما يعتقده يمثل حالة جديرة بالملاحظة والدرس والاستمتاع. فهي وإن كانت من الطروحات الثقافية القديمة، إلا أنها تمتلك طزاجة وروح اللحظة، لأنها ليست نصوصاً يومية طارئة، بل منغرسة في الوعي الإنساني كإشارات عابرة للثقافات.
هكذا رمى معطفه في زوايا مقصودة على سرير هذا العالم. وكأنه يريد ترجمة المفهوم أو المعنى المكتنز في تلك النصوص، أكثر من اعتنائه بترجمة الألفاظ. بمعنى أن الترجمة في وعيه هي منشّط ثقافي شاعري. ومن ذلك المنطلق ينقل فضاءً دلالياً على درجة من الاتساع والثراء، ليقدمه على شكل جرعات نصية بين حين وآخر، وبذلك يحافظ على لياقة الحياة.

٭ كاتب سعودي

محمد العباس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية