باريس – «القدس العربي»: يذهب معرض «حدود»، المقام في «متحف الهجرة» الباريسي، أبعد مما نتخيل. ففي صالات واسعة تتوزع أعمال تسجيلية وشرائط فيديو وصور فوتوغرافية مثيرة للجدل، وكثيرة هي الأسئلة والوقائع، حول مفهوم الحدود وغرضه الإبستمولوجي، وأبعاد تفسيراته وعلاقته مع الإنسان، المهاجر والمسافر، وعلى الأخص على الأقليات والهاربين من الحروب.
ويحاول المعرض تقديم صورة عميقة عن الحدود، سياسياً وثقافياً وانثروبولوجياً، من خلال اتاحة الفرصة للزوار في الاطلاع على أرشيف ضخم وتسجيلات تعتمد التوثيق والعرض الفني، كمحاولة لفهم ظاهرة الحدود، البحرية والبرية على حدّ سواء.
ويتزامن المعرض الذي ينظمه المؤرخ إيفان غاستو والاختصاصية في السياسة كاترين ويتول دو وندن، مع نكبات يشهدها الشرق الأوسط، وتعد الحدود أحد أبرز أوجهها، مع تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين الهاربين من أتون الحروب والديكتاتوريات وظلم الجيوش النظامية والكتائب الدينية والميلشيات المذهبية المتفرقة، وغرق العديد من المهاجرين في البحر، وهو أحد أهم ثيمات المعرض.
ويعرض فيلم تصويري فوق جدران إحدى القاعات، رهبة البحر وصوت أمواجه، بتحريك ضوئي يمثل قوته والخوف الذي يبثه، خصوصاً عند عبوره بشكل غير شرعي، وتشكيله نموذجاً يتحدى الإنسان ويقتله. وتدل الصور المعروضة والتسجيلات الصوتية المترافقة، على أن البحر ليس وحده من يقتل عابريه ومراكبهم. فيتناول المعرض قصة المركبة من نوع «زودياك» التي غادرت ليبيا عام 2011 وعلى متنها 72 شخصاً، وتاهت في المياه الإيطالية المنتمية إلى حلف «الناتو»، والتي لم يستطع أي أحد إنقاذها، على الرغم من إرسال طاقمها إشارات طلباً للنجدة، و»تركت لتموت»، كما تدون إحدى اللوحات في شروحها، التي رافقها تسجيل خاص لطلب النجدة، ثم ما تلاه حينها من صمت بعد الغرق.
ويستهل المعرض جولته منذ عام 1989 بعد هدم جدار برلين، ويتناول المعاني المخفية والرمزية للجدار الذي فصل بين مكونات شعب تجمعه لغة وتقاليد واحدة. ويحاول العبور في أزمنة الحدود ومخيلاتها، فالأماكن بعد انهيار سور برلين، تغيرت في معطياتها وركائزها الجغرافية والبنيوية، ومعها تغير التشكيل العمراني والاجتماعي، وبرزت تركيبة ثقافية جديدة. ويمّكن المعرض زواره من معرفة حدود لم يألفها، أو لم تحظ باهتمام المؤرخين أو كتاباتهم، ولا بتسجيلات توثيقية، فيكشف لنا على سبيل المثال السور الفاصل بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، وبين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية.
ويضم المعرض وثائق تاريخية وأعمالاً فنية تبرز الأحداث المؤلمة التي يمر بها العالم اليوم، إلى جانب الصور التي التقطها المصور، برونو، الحاصل على جائزة «نادار» للتصوير في 2015، والتي تصور الغرقى في البحر، بالإضافة إلى اللوحات التجريدية للفنان، جيرار ريشتر، وصور وأفلام فيديو التقطت على الشواطئ الإيطالية والبواخر المحملة بالمهاجرين غير الشرعيين.
وتقدم «سينوغرافيا» المعرض نبذة لتحديد مفهوم الحدود وترسيماتها، بواسطة أرشيف خاص ووثائق نادرة وخرائط جغرافية، وبعض الأعمال الفنية، والمقالات المتعلقة وعبر إذاعة ونشر شهادات ومصنفات أدبية وقصص لمهاجرين، بحيث يبلغ مجموع المعروضات 250 قطعة تبين مساراتها العلاقات الملتبسة بين الحدود والهجرة والإنسان.
ويعمل منظمو المعرض على ثلاثة جوانب للحدود، عبر توجيهات تربوية وسياسية واقتصادية واجتماعية، حول حدود الجدران في العالم، ثم في أوروبا (منطقة الشينغن والبحر الأبيض المتوسط) قبل عبور فرنسا. يذكر أن عدد الذين لقوا حتفهم في البحر المتوسط بلغ 30 ألف شخص في الفترة من 2000 إلى 2015.
ويبذل القائمون على متحف الهجرة جهداً ملحوظاً لتقديم كل ما يثير المخيلة ويتوغل عميقاً في النفس البشرية، بل إن المبنى الذي يشغله في الدائرة 12 من باريس، على مشارف غابة فنسان، له حكايته الخاصة، فقد تم تشييده عام 1931 بمناسبة إقامة المعرض الكولونيالي، ثم أصبح متحفاً للفنون الأفريقية، قبل أن يخصص كمقر لمتحف الهجرة الجديد.
* المعرض مستمر حتى 29 أيار / مايو 2016.
صهيب أيوب