من أبرز سمات حيوية الرواية في منطقة ما من العالم قدرتُها على التجدد والاختلاف والتنوع وقابليتها على مواصلة التجارب السابقة وتعزيزها وتقوية جذورها وإنعاش مصادرها. تموت الروايةُ عندما تنفصل عن مرجعياتها التاريخية وتفقد ارتباطها بماضيها فتحدد لنفسها، بين فترة وأخرى، نقطة انطلاق جديدة. تعاني الرواية أيضا وتقترب من الموت عندما تخاف التجديد وتخشى المغامرة وتركن إلى الجاهـــز من التقنيات والثيمات وتستعيد قوالب نمطية من الحكايات والشخصيات الروائية التي تحولت، بفعل كثرة استخدامها، إلى مجرد «أدوار تمثيلية» بلا طاقة دافعة ولا ديناميكية حقيقية.
ألم تكن بعض هذه الأسباب هي التي عجلت بزوال تجارب روائية عالمية مهمة وفذة في بداياتها كالرواية الفرنسية الجديدة مثلاً؟ ألا يقف قسم من الدواعي المذكورة هنا وراء أزمة الجمود التي تمر بها الرواية العربية اليوم؟ أليس انسداد الآفاق الفنية وتحجر أساليب الكتابة الروائية عند معظم الروائيين العرب الحاليين، بضمنهم كثيرون نسميهم «كبارا»، علامة دالة على وجود أزمة مصيرية تمر بها الرواية العربية الراهنة؟ْ إن نكران هذه الأزمة، من قبل الروائيين خصوصاً كما من قبل عدد كبير من الدارسين، لا يلغي وجودها ولا يغير من الواقع شيئاً. كل ما يمكن لهذا التجاهل لجدية الأزمة فعله هو أن يؤجل مواجهة الحقيقة والمصير المحتوم إلى حين. نعم، تساعد الجوائز، بشكل خاص، وبريقها الذي يخطف الأبصار ويعمي البصائر وغطرسةُ الروائيين «الكبار» والنقدُ التقليدي، المسالم والمهادن ولا أقول المجامل أو المتزلف حفظاً لهيبة بعض رموزه، تعين كل هذه الأمور مجتمعة الرواية العربية الراهنة على البقاء ضمن أفقها الضيق الحالي وتزيّن لها وضعها الحاضر وتصرف النظر عن خطورة ما تمر به من ظرف حرج يهدد كيانها وقد يصيب وجودها في مقتل.
لأزمة الجمود التي تعرفها الرواية العربية اليوم مظاهرُ كثيرة أبرزها هذه المحدودية الصارخة على مستوى الثيمات الروائية وهذا الانغلاق البيّن لأفق كتّابها فيما يتعلق بتجديد موضوعاتهم. كنت قد كتبت في مقال سابق نُشرَ هنا في «القدس العربي» ان الرواية العراقية محدودةُ الآفاق جداً من ناحية الثيمات المحرِّكة للأفكار داخل النص الروائي. واقع الأمر، حسب ظني ومنتهى علمي الحاضر، ان هذه الملاحظة التي أزعجت كثيرين يرون في الرواية العراقية ما لا أرى ولهم في هذا الحق كله (أعني حقهم في الاختلاف وربما في التخيّل وعيش الوهم وتصوره واقعاً حقيقياً)، أقول إن الملاحظة الآنفة تكاد تنطبق تماماً على الرواية العربية الراهنة بشكلها العام بدون التوقف عند الاستثناءات القليلة جداً التي قد تظهر من حين لآخر مرةً هنا وثانيةً هناك.
إن مراجعة سريعة للروايات العربية التي فازت بجائزة البوكر، مثلاً، منذ دورتها الأولى إلى الأخيرة تكشف عن غياب التنوع في المواضيع السردية حيث دارت كلُّ الروايات التي حصدت المركز الأول وقسم كبير من تلك الواصلة للقائمة القصيرة حول ثيمتين رئيستين هما الدين والسياسة وذلك بنسبة تكثر هنا وتقل هناك لكنها حاضرة على الدوام في النسيج الحكائي للروايات بما يكفي لقيادة الحبكة وتحديد مصائر الشخصيات. صحيح أن روايات الجوائز لا تعد مرجعاً وحيداً لقياس حضور ثيمة ما في الروايات المنتجة في البلدان العربية، لكنها تعطي مؤشراً عن حجم استدعاء مواضيع بعينها في النصوص الروائية التي يكتبها الروائيون العرب اليوم. في السنتين الأخيرتين أتاح لي تكليفٌ مهني الاطلاع على مجموعة كبيرة من روايات عربية ينتمي مؤلفوها إلى بلدان مختلفة. في عمومها، لم تشذ تلك الروايات، من ناحية موضوعاتها، عن روايات البوكر حيث كان الدين والسياسة وما يمكن أن ينشأ عنهما من مواضيع صغيرة المحورين الأساسيين للحكاية. لا يمكن التذرع بحجة أن الرواية تعكس واقع المجتمعات لقبول هذا الانسداد الخطير في أفق الموضوعات التي تعالجها النصوص الروائية العربية في زماننا الراهن. هذا المنطق البلزاكي/الستندالي/المحفوظي الذي استنفد شرعيته في الرواية العالمية منذ زمن طويل تتم إعادة تأهيله وتسويقه على الدوام من قبل الروائيين على وجه الخصوص وبالذات من جانب منْ يريدون مداراة الإرهاق الفني الذي بدأ يتضح أكثر فأكثر في كتاباتهم وسترَ التعب المكشوف والوهن الملحوظ في مواهبهم السائرة بسرعة نحو النضوب والتلاشي.
بطبيعة الحال، ليست الثيمة معزولةً عما يحيط بها ويتداخل معها من عناصر أخرى تكوِّن بمجموعها النصَّ الروائي ولا أقصد، بتعرضي لأفكار الرواية هنا، فصل هذه الأخيرة عن غيرها من مركّبات الكتابة الأدبية. من جهة كونه، بالأساس، خطاباً لغوياً فان النص الروائي بل المكتوب الأدبي بالمطلق، نظامٌ من علامات يصعب (وحتى يستحيل عند البنيويين) تعريف أي من عناصره في حال إغفال العلائق الداخلية التي يشيدها هذا العنصر أو ذاك مع باقي مكونات السرد. لا يقتصر قبول هذه الفكرة، أو جوهرها في الأقل، على النقاد النصيين للأدب الروائي بل يشمل السياقيين أيضاً اذ يتفق هؤلاء وأولئك على أن الثيمة جزءٌ من كلٍّ يؤثر في حركة النص الداخلية تماماً مثلما يتأثر بها. عندما تكون ثيمات رواية ما محدودةً فلا بد أن تتسرب هذه المحدودية بطريقة أو بأخرى إلى باقي عناصر النص التركيبية. مع إقرارنا بتأثير نوعية الثيمات على مجمل مفردات السرد فإن فعلها المؤثر ليس متساوياً على تلك المكونات إذ يبرز هذا الفعل بشكل خاص على نوعية الشخصيات وطبيعة اللغة الروائية أكثر من غيرهما. أما لماذا يظهر أثرُ الثيمة على الشخصيات واللغة الروائية بصورة أشد مما يبدو عليه الأمر مع العناصر السردية الثانية فذلك، حسب فهمي، لأن الروائي يخلق شخصياته في ضوء الفكرة المركزية للحكاية التي ترويها الرواية باعتبار أن الفكرة (وأنا هنا أستخدمها كمرادف للثيمة) هي مرجع الرواية الأساس وهي من تحرك، أكثر من غيرها، النص وتوسع من إمكانياته في محاكاة العالم والنفاذ إليه وفهم أشكاله. وفق هذا المنظور يكون من الممكن جداً اعتبار تاريخ الرواية الحديثة، في جزء هام منه، رصداً للمتغير والمتحول والمتبدل من الأفكار التي تعكسها النصوص الروائية وتتمثلها الشخصيات. أما ارتباط الثيمة الشديد باللغة الروائية فهو من باب تحصيل الحاصل لأن الثيمة لا تنجز فعلها الاّ من خلال اللغة ولا يمكن لها أن توجد أصلاً خارجها. في الروايات، وكما لاحظ ذلك عبد الرحمن منيف ذات مرة، فان اختيار الموضوع كثيراً ما يتم من خلال اللغة. سأركز، في السطور الآتية، على الترابط الجدلي بين شحة الثيمات ونوعية الشخصيات في الرواية العربية وأترك العلاقة بينها واللغة الروائية إلى مقال مقبل.
لقد أنتجت ثيمات الرواية العربية المحدودة نوعيات غير واسعة من الشخصيات يسهل التعرف عليها ولا يتعذر حصرها في فئات قليلة أصبحت اليوم، لكثرة ما أعيد إنتاجها وتدويرها ونسخها من جيل لآخر، نمطيةً جداً ومستهلكة فنياً، تبعث على الملل والضجر وتضعف الإيمان بقابلية الفن الروائي العربي على التطور وفتح آفاق جديدة على المستويات التقنية للكتابة السردية. إن الجمود والرتابة والتكرار وقلة الإبداع وجدب الخيال، على مستوى صناعة الشخصيات خصوصاً، ستقود يوماً إلى موت الرواية العربية وإذا بقي الحال على ما هو عليه الآن فان هذا اليوم ليس ببعيد. وتعلقاً بموضوع خلق الشخصيات، أود الإشارة إلى أن الرواية العربية، على امتداد تاريخها الطويل نسبياً، لم تكن يوماً قادرة على إنتاج شخصيات مركبة تنبض بالحياة وتستمر بالوجود في ذهن القارئ وتمكث في ذاكرته بعد فراغه من قراءة الرواية. شخصيات روائيينا، عموماً، أشباح بلا روح، «كائنات» من ورق بلا أثر ولا وعي حقيقي وهي انعكاس يصل أحياناً حد أن يكون مباشراً لشخصية الروائي ذاته وانفعالاته وعقده وتاريخه النفسي. لا يشذ عن هذه القاعدة الاّ روائيون كبار من طراز نجيب محفوظ وحنا مينا والطاهر وطار والطيب صالح «في موسم الهجرة إلى الشمال» وجمال الغيطاني في «الزيني بركات» خصوصاً. هؤلاء الكتاب استطاعوا خلق شخصيات تعدتْ حدود وجودهم الذاتي كروائيين واكتسبت استقلاليتها وحياتها الخاصة حتى خارج النص الروائي بحيث تحول قسم منهم، ك (سي السيد) عند نجيب محفوظ و(اللاز) لدى الطاهر وطار و(الزيني بركات) في رواية جمال الغيطاني و(مصطفى سعيد) في موسم الهجرة للشمال للكاتب السوداني الطيب صالح، تحولت هذه الشخصيات، بفضل دينامكيتها الفريدة وحيويتها وقدرتها على الديمومة ومواصلة الأثر، إلى نماذج روائية «prototype» سارت على منوالها، وما تزال تدور في فلكها، معظمُ شخصيات الرواية العربية الراهنة.
إذا كانت شخصيات هؤلاء الكتّاب الخيالية قد حفرت لها مكاناً في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية فذلك لأن الأفق الذي وضعتهم فيه الثيمات الروائية للنصوص التي ظهروا فيها تجاوزَ مسألةَ خلق شخصيات جديرة بالإعجاب وقادرة على إثارة اهتمام القراء كما يفعل روائيو اليوم.
ان (سي السيد) و(اللاز) و(الزيني بركات) و(مصطفى سعيد) لم يكتسبوا بقاءهم في أذهان عامة القراء لأنهم شخصيات محورية فقط بل لأن الثيمة التي وظفتهم كانت من الاتساع والقوة بحيث ضمنت لهم الاستدعاء والحضور في كل رواية نعثر فيها على وجود لموضوعة الرجل الشرقي الكلاسيكي والشخصية الثورية التي تختفي خلف قناع معين من أجل ستر ثوريتها والريفي الذي يغادر قريته أو مدينته إلى الغرب وما يفرضه هذا الانتقال من تصادم في القيم. بدون الثيمات التي أوجدتهم، لا قيمة تذكر لكل تلك الشخصيات كما لا قيمة لراستينياك بلزاك، مثلاً، أو مدام بوفاري فلوبير وراسكولنيكوف ديستوفيسكي إذا ما عزلناهم عن سياق الموضوع الروائي الذي سبب ولادة كل واحد منهم. إن الشخصية الروائية تستمد حيويتها وتواصل ديناميكيتها وتصنع أثرها اعتماداً، لا على صفاتها الاستثنائية (أعني إسباغ مزايا خاصة عليها كأن تكون جسدية، فكرية، نفسية)، بل على مدى اتساع وانفتاح أفق الثيمة السردية التي تنمو داخلها وتسير بها نحو فضاءات رحبة تتجاوز حدود الجغرافية والتاريخ. هنا يكمن سرُّ قوة الشخصيات القليلة التي حجزت لنفسها مكاناً خالداً في ذاكرة الرواية العربية والعالمية. إن الثيمات الضيقة والمحتضرة لا تقدم غير شخصيات ميتة من الأساس أو غير قادرة على البقاء طويلاً لافتقارها إلى ما يمكّنها من مقاومة النسيان ومغادرة الذاكرة سريعاً ربما قبل ان يطوي القارئ أخرَ صفحة من صفحات الرواية. خلاصة القول: إذا ما أريد للرواية العربية مواصلة الحياة وأخذَ جرعات منشطة تؤخر الموت المقبل لا محالة فلا بد من اختراع ثيمات جديدة تفتح أبواباً طارئة على وعينا بالعالم في ديمومته وتدفقه وسريانه.
٭ كاتب عراقي
حسن سرحان
استعمل الكاتب الكلمة الأجنبية ثيمة،وهي ليست عربية والأفضل هو استعمال كلمة موضوع.
أشد على يدك أستاذي حسن سرحان وإن كنت لا أتفق مع بعض ما جاء في المقال إلا أني أكاد أتفق معك على أغلب النقط وأضيف تيمة الجنس الى التيمتين اللتين أشرت اليهما ألا وهما الدين واسياسة ، ومع أنه يقال أن الإدارك نصف الحل إلا أنه فيما يخص الرواية العربية قد لا يفيد فكل كاتب إلا ومنغلق في عالمه ولا يسمع الا صوته الداخلي والنقد حتى الان عاجز على تتبع كل التجارب الابداعية فسيل الكتابات الصادرة كل سنة ، بحر جارف يصعب رصده والبحث في تجميع خصائصة وتحديد نقط قوته وضعفه كما تكرمتم برصد بعضها أستاذي ، صوت واحد لا يكفي