من منصات أدبية… السعودي علي الشدوي يفكك اللحظة الداعشية

الظاهرة الداعشية محل اهتمام ودراسة من قبل خبراء الأمن ومحللي الشأن السياسي وعلماء الاجتماع والمثقفين أيضاً. فما من أحد إلا ويريد فهم أسباب نشوء هذه الحركة العنفية المدمرة لكل ما هو إنساني وحضاري. واقتراح أفضل الطرق والوسائل للقضاء عليها والحد من آثارها المادية واللامادية. وفي سياق هذه المحاولات يأتي كتاب «مذكّرات قَبْو – الداعشي انطلاقاً من لحظته الخاصة» الصادر حديثاً عن طوى للثقافة والنشر والإعلام.
في بحثه المتكئ على الإرث الأدبي يفترض علي الشدوي أن الداعشي هو روح المرحلة؛ حيث حلت روح الشهيد محل روح البطل الذي يغير التاريخ. وعلى هذا الأساس يقاربه ويحاول تفكيك لحظته، أي في ضوء تجارب متعددة؛ كتجربة الرجل الغريب في رواية «مذكرات قبو» وراسكلينكوف في رواية «الجريمة والعقاب» وآخاب في رواية «موبي ديك» والحسن الصباح في رواية «الموت» ولاعب الأرجوحة في قصة فرانز كافكا وهكذا.
الكتاب، كما يقول الشدوي، كُتب بلغة الخسارة والحداد، فما من عائلة عربية بشكل عام، حسب تصوره، أو سعودية بشكل خاص إلا وعانت من فقد عزيز أو حبيب أو على الأقل، سمعت عن ذلك في الأحداث الدائرة في العراق والشام. وهذا هو بالتحديد ما فرض عليه فكرة الأخذ بمزدوجة الخسارة والحداد. ربما لأنه فقد ابن اخته عام 2013 في الموصل، إثر غارة للطيران الأمريكي. وكان قد تلقى منه اتصالاً قبل مقتله، عندما كان في سوريا، يطلب من أمه أن تسامحه، وتبارك له استشهاده الذي يحلم به، وتزفه إلى حور العين، متخلياً عن فكرة الزواج الدنيوي من المرأة التي خطبوها له.
هذا الخسران الشخصي هو الذي جعل الشدوي يصدق أن حرباً حقيقية تجري هناك. وعليه، انبثق السؤال في داخله عن سبب تلك الحرب العبثية، التي قتلت ابن أخته، الشهيد المفترض. إذ لم يقم له العزاء خوفاً من مباحث الدولة، وهو الأمر الذي ضاعف جرعة الحسرة والألم، فليس أقسى من ألا تقيم فرحاً لمن تحب، أو ألا تقيم مأتماً عليه، حيث تنطفئ بوصلة الحداد في مثل هذه المواقف. وتضيع الكلمات من الأحبة. فالعمى هو سيد الموقف، والدواعش يتكاثرون. والحدث قيد الحدوث، بلا توقف، حيث يتلبس الداعشي روح الرجل الغريب الذي يكتب مذكراته منفصلاً عن المجتمع، أو راسكيلنكوف الذي يمارس العنف العاري، ووحشية القتل بواقعية قاتمة، أو أخاب الذي يؤدي فروض التزييف المطلق واللعب الماهر وخداع ذاته في لعبة خاسرة.
هكذا تم تمجيد وتضخيم المجاهد في الربع الأخير من القرن الماضي، لكي يصبح، من منظور الشدوي، تجسيداً عملياً للثقافة العنيفة بما يتلاءم مع مرحلة الداعشي التاريخية، في ظل تراجع منسوب الإعجاب بالمجاهدين الكلاسيكيين في أفغانستان، وظهور المجاهد الداعشي، أو ما سماه باللحظة الداعشية. وعلى هذا الأساس حاول قراءة دوافع الفرد النفسية، وارتباطها بالبنى العابرة للأفراد. وذلك من خلال إعادة خلق مناخ الجنون المرعب والمريع في الثقافة، للتعرف على مدى عنفية العالم، وقدرته على ابتلاعنا. أي تشكيل ملامح صورة الداعشي، بمعزل عن صوابيتها أو لا صوابيتها. فلحظة الداعشي وبنيته الوجدانية لا تقارب إلا من خلال حل علمي. ولذلك تحضر في التحليل بطريقة استعارية، بغض النظر عن هويته الدينية أو المذهبية.
إن تجربة الجهاد الإسلامية التي بدأت في التسعينيات من القرن الماضي، لا علاقة لها بالتجارب الكلاسيكية التي سبقتها، بافتراض الشدوي. وأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 هي التي دفعت التجربة الجهادية الجديدة إلى حد القطيعة مع الجهاد التقليدي، حيث تنامى بُعد التضحية الصريح بالجسد، وإضفاء الطابع المثالي على فعل التضحية، وكل ذلك ينتمي إلى حقل من العلامات التي تؤسطر المجاهد الشهيد، أو المجاهد النجم، بما في ذلك عدة الانتحار، كالحزام الناسف أو السيارة المفخخة، والوصية المسجلة التي توحي بتجليه كقاتل بوجهين يميت ذاته ليحيي سنة نبوية.
أما صمت المجتمعات الإسلامية على ارتكابات أبنائها من الدواعش فهو أكثر تعقيداً، حيث يتجاوز الأمر أحياناً حالة السكوت إلى حالة الفرح، حيث لذة الحديث عن الموت تساوي لذة إتيانه. هذه هي الأدوات الُمرهبة لأعداء الدين، وهذا هو محل الشهادة التي يتبناها الداعشي، إذ لا ينكشف هذا المعنى إلا في سياق الثقافة الإسلامية، أي الإباحة المطلقة لقتل الأعداء، وبأبشع الوسائل، وبدون أدنى شعور بالخطيئة، حيث يختلط معنى الشهادة بمفهوم العدمية، وتتوحد السلطة بالعنف حد التطابق، وكل ذلك على إيقاع الشحن الأيديولوجي، الأمر الذي يموضع الداعشي في خانة المتمرد وليس في مرتبة الثائر.
هذا هو ما أعاد تأسيس الأمة المتخيلة بجغرافيتها وطهوريتها اللغوية والقبائلية والقيمية، حيث استطاعت البنلادية كنقطة إشعاع استخدام التاريخ النفعي للجهاد، وبناء الشعور الوهمي بالوجود المتمثلة في الخلافة القائمة على القتل، أي إبداع ما سماه ايجلتون بالمتعة الفاحشة، المقبولة اجتماعياً وأرستقراطياً، وذلك بالاعتماد على من يسميهم بفنيي العبادات، عوضاً عن المرجعيات الدينية، فروح المرحلة تتطلب قتلة على درجة من الطمأنينة، ومقتولين يلفهم الرعب، وفي ظل وجود جماعات تبايع وتعاضد القاتل الأكبر، الذي هو بمثابة العروة المقدسة.
هكذا تشكل ما يصطلح عليه بباراديغم الجماعة المؤمنة، إنطلاقاً من المتن النصي القرآني، أي تأسيس كيان لا يرسم العلاقات النفسية الكونية للجماعة، بل يحدد حتى مدارات التعاطي مع الآخرين، فهو جماعة ليست سكونية بقدر ما هي حركة راغبة وقادرة بالعنف على التمدد وترسيم مجالها الحيوي، من خلال هويات سالبة تترجم ارتباكاتها إلى أدوار منحرفة، وهذه هي طبيعة الإنسان القبوي، بالتعبير الديستوفسكي، حيث يحدث الإنسان نفسه بأنه إنسان مريض وخبيث ودنيء ووغد. وما مراودة ذاته بالمكوث في القبو إلا صورة من صور الاندفان في الأرض، التي يبدو باطنها في الأدبيات المثالية الشعبية أخير من ظاهرها، حيث الشعور بالدونية والذنب، بمعنى أن الرجل الغريب كشخصية روائية هو المعادل للداعشي.
وهو – أي الداعشي – ما هو إلا صورة لراسكولينكوف، الذي يتجاوز القوانين ليكون مفيداً للبشرية، بتنفيذ مشروع القتل الذي يعشش في رأسه فهو مصاب بهوس أحادي، بمعنى أنه عرضة لفكرة ساطية المتمثلة في القتل، كما يموضعه في خانة الأفعال الخيّرة، حيث يتم إحلال الأهداف الخاطئة محل الأهداف السليمة. معترفاً بجريمته في خدمة الله، وإن كان يسميها جهاداً، حيث لا تولد الجريمة في الضمير، بل في محاولة قتله، وهذا هو الأصل الاجتماعي للداعشي وللشخصية الروائية، وكأن كل ذلك يتم في ظلام مطلق.
كما تتحكم بالداعشي فكرة الثأر، التي يؤدي طقوسها روائياً آهاب (آخاب) في رواية «موبي ديك»، فهو شخص ثأري يمارس إرعاب بحارته، ويذكرهم على الدوام بضرورة احترام سيادته. وكما يتخذ آخاب شريعة البحر قناعاً له، يتقنع الداعشي بالشريعة الإسلامية ليمارس اقترافاته. ولا فرق بين مطاردة الحوت وفكرة الثأر للمسلمين والتنكيل بالطريدة، حيث تصاحب تلك العملية خطابات نارية وشعارات حربية، فالداعشي مثله مثل آخاب وجه كل أفكاره وأفعاله نحو غاية واحدة هي الثأر مضحياً بكل رغباته البشرية والتحول إلى وحش يقيم جسده داخل روح شريرة.
إن الداعشي لا يعيش في المدار الواقعي للحياة، بل يسكن في كهف، وليس بمقدوره الإنصات إلى الألحان الصوفية للوجود، لأنه لا يمتلك مقومات هذه التجربة أصلاً، ولا أدوات التعرف على أسرار الكون، حتى اللغة البصرية الدنيوية التصويرية لا يعرف أولياتها لأنه ينتمي إلى الجماعة المعمّمة في حالتها غير السوية، التي يمكن مقاربتها من خلال تنظيم الحشاشين، تحت إمرة الحسن الصباح بكل جبروته وقدسيته، أو كما يشبهه بلاعب الأرجوحة في قصة كافكا الذي ظل ملتصقاً بارجوحته ومعلقاً في السماء، وذلك هو مغزى التجربة الدينية التي تبقي على الفرد معلقاً في لعبة المقدس، أو هكذا استقرأ علي الشدوي اللحظة الداعشية من منصات أدبية.

ناقد سعودي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية