الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية التي عرفتها تونس مؤخرا، وإن كانت محدودة في الزمان والمكان، خلافا لما روجته كثير من وسائل الإعلام الأجنبية التي بالغت في تهويل الحدث، إلا أن تأثيراتها ستبرز على المشهد السياسي والحزبي في الأيام المقبلة. إذ لا يخفى على عاقل أن هناك أطرافا سياسية داخلية وخارجية تقف وراء تأجيج هذه الاحتجاجات وتحركها من وراء الكواليس، وتستغل غضب التونسيين على غلاء المعيشة وعلى قانون المالية الجديد، لتحرك الشارع ليلا للسلب والنهب وإتلاف الممتلكات الخاصة والعامة.
ويؤكد بعض العارفين بخفايا وكواليس الساحة السياسية التونسية على أن هناك نيرانا صديقة كانت من بين المستهدفين لحكومة الشاهد الذي أساء بعض المحيطين به، والذين تحوم حولهم شبهات، لمصداقيته في محاربة الفساد. ولعل ما يدعم هذا الطرح هو عدم إعلان حظر التجوال ليلا، بخلاف العادة في مثل هكذا أحداث، وعدم مسارعة الأطراف الفاعلة إلى إلقاء طوق النجاة للشاهد وفي الوقت المناسب، إذ بدا وكأنها تنتظر نهايته أو لديها الرغبة في الضغط عليه من أجل تنازل ما.
عزلة سياسية
لقد وجد يوسف الشاهد نفسه في هذه الأزمة شبه معزول سياسيا، فهناك أطراف عديدة كانت تمني النفس في الإطاحة به وإزاحته، وذلك رغم التضاد الفكري والإيديولوجي بين هذه الأطراف، ورغم الإختلاف بينها في كثير من الملفات. حتى أن البعض لخص على سبيل الدعابة والسخرية ما يحصل ليوسف الشاهد في هذه الأزمة من عزلة، بآية قرآنية من سورة يوسف جاء فيها: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ.
لقد ساهم الشاهد في عزل نفسه يوم قبل بوزراء رابطوا في حكومته رغم خروج أحزابهم من الائتلاف الحكومي وغلبوا المنصب الوزاري على الإنتماء الحزبي رغم أنه تم اختيارهم على أساس هذا الإنتماء وليس لأشخاصهم. فأي قيمة لهؤلاء خارج أحزابهم خاصة وأنهم ليسوا من أصحاب الكفاءة الذين لا يشق لهم غبار حتى يتمسك بهم رئيس الحكومة ويضرب عرض الحائط بحزب جمهوري هو وريث أحزاب عريقة في الساحة السياسية التونسية ولديه ثقله النضالي، وأيضا بحزب آفاق تونس الذي لديه عدد معتبر من النواب داخل قبة البرلمان.
كما أن في داخل حزب الشاهد نفسه، أي حركة «نداء تونس» أطراف تعارض بقاءه على رأس الحكومة ولكل أسبابه التي تجعله يفعل ما يخطر وما لا يخطر على بال في سبيل الإطاحة برئيس الحكومة. فمن بين هؤلاء من تضرر من عملية القبض على رجل الأعمال شفيق جراية في إطار حرب الشاهد على الفساد، وهب حرب ما زالت محل تشكيك، ومنهم من يرغب في ترؤس الحكومة مكان الشاهد، ومنهم من لديه رغبة في تنصيب رئيس حكومة جديد مقرب وطيع ينفذ الأوامر ويوافق على تنصيب الأصدقاء والمقربين في المناصب التي يقترحونها.
ولا تبدو حركة النهضة راضية على أداء الشاهد في عديد الملفات ولا على المحاصصة الحكومية، باعتبار أن عدد الحقائب المتحصل عليها من قبل الحركة لا يتماشى وحجمها الانتخابي وحجم كتلتها النيابية. ولا يبدو أيضا أن قواعد حركة النهضة كانوا غائبين عن الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة رغم أن الحركة فاعلة في الحكومة التي أعدت مشروع الميزانية وأيضا في وزارة المالية، وهو تناقض دأبت عليه أحزاب تونسية عديدة ما زالت لم تع وهي في السلطة أنها أحزاب حكم وليست أحزاب معارضة.
تسجيل النقاط
أما المعارضة، ممثلة في الأساس بالجبهة الشعبية (ائتلاف أحزاب يسارية وقومية) والأحزاب المنبثقة عن حزب المرزوقي، المؤتمر من أجل الجمهورية، فالفرصة كانت سانحة أمامها لـ»تسجيل النقاط» على الخصوم السياسيين، أي أحزاب الموالاة وتحديدا حركة «نداء تونس» ومؤسسها الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد. وهو حق مشروع لكل المعارضات في كل أنحاء العالم ما لم تتجاوز عملية «تسجيل النقاط» تلك حدود القانون وتخل بالأمن العام والاستقرار الذي يتطلبه البلد.
وبالفعل فقد انخرطت الجبهة الشعبية في هذه الاحتجاجات «من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها» وذلك رغم تصويت نوابها على قانون المالية في مجلس نواب الشعب عندما عرض مشروع القانون على التصويت. واتهم الشاهد صراحة الجبهة دونا عن البقية بالوقوف وراء أحداث الشغب التي عرفتها البلاد ولم يقدم الأدلة على هذا التورط، الأمر الذي يستدعي فتح تحقيق من النيابة العمومية لاستجلاء الحقيقة والوصول إلى نتيجتين لا ثالث لهما، إما ثبوت تورط الجبهة فيتم تتبع قيادييها جزائيا، أو عدم ثبوت التورط، فيحاسب الشاهد من أجل الإيهام بوقوع جريمة طبقا للمدونة الجزائية التونسية.
وانتقد «حراك تونس الإرادة»، الذي يتزعمه المنصف المرزوقي بشدة قانون المالية وحملة الاعتقالات التي طالت المدونين الذي حرضوا على التظاهر لإسقاط قانون المالية محملا الحكومة المسؤولية عما يحصل. وقد اعتاد المرزوقي وحراكه على مساندة كل تحرك يستهدف الحكومة وذلك منذ 2014 تاريخ مغادرة الرئيس المؤقت الأسبق لقرطاج، ولم يساند هذا الحراك أي قرار حكومي وكان متوقعا أن يصدر عنه هذا الموقف.
المنظمات الوطنية أيضا
كما أن المنظمات الوطنية الكبرى سواء تلك الموقعة على وثيقة قرطاج، التي كانت الأساس الذي قامت عليه حكومة الشاهد، لم تساند هذا الأخير في قانون المالية مما زاد من عزلته السياسية. فقد اعتبر الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل أن الأسباب الرئيسية التي أشعلت الاحتجاجات بشكل مباشر هي الإجراءات التي جاءت بها الحكومة في قانون المالية لسنة 2018 وأججتها سنوات متراكمة من الفقر والتهميش والاحتقان استغلها البعض لبث الفوضى واستباحة الأملاك العامة والخاصة، وأكد على أن الاتحاد نبه منذ البداية من ما سيخلفه قانون المالية 2018 معتبرا أن هذه الإجراءات تمس القدرة الشرائية للمواطن وتثقل كاهل الأجراء والموظفين.
فالشاهد وفريقه الحكومي استهدفوا الجميع (محامون، أطباء، تجار، موظفون) من خلال هذا القانون ولم يجدوا في النهاية من يدافع عنهم ويحميهم من العاصفة التي قد تهدأ لفترة لتعاود الهبوب برياحها العاتية من جديد مستهدفة الأخضر واليابس. فلا أحد مستعد للتضحية في تونس وفي محيط رئيس الحكومة من تحوم حولهم شبهة الفساد، وفي الحكومة شركاء ظهرت عليهم آثار النعمة ولا أحد حاسبهم وقال لهم من أين لكم بكل هذا.
في مهب الريح
عبارة تنطبق على الائتلاف الحكومي، الذي يتوقع له أن لا يعمر بعد الانتخابات البلدية، والذي ينفرط عقده تدريجيا، فقد انسحب منه سابقا الحزب الجمهوري وآفاق تونس يعلن محسن مرزوق، الأمين العام لحركة مشروع تونس المنشق بكتلة معتبرة العدد عن حركة نداء تونس، انسحابه من وثيقة قرطاج التي قامت على أساسها الحكومة. ويبدو أن مرزوق قد شعر بالوهن في الأداء الحكومي ومن الخسارة الحاصلة لها في رصيدها الشعبي نتيجة لغلاء المعيشة، فلم يعد قادرا على المراهنة على الحصان الخاسر وخير الانسحاب.
كما أن موقعين على وثيقة قرطاج وأعضاء في الائتلاف الحكومي مثل حزب المبادرة الدستورية وحزب المسار شكلوا مع أحزاب أخرى بالتوازي مع الاحتجاجات تحالفا انتخابيا لخوض الانتخابات البلدية التي ستجري في آيار/مايو المقبل بعيدا عن النداء والنهضة. ويضم هذا الائتلاف الانتخابي الجديد إضافة إلى الحزبين المذكورين الأحزاب المنسحبة إما من الائتلاف الحكومي أو من وثيقة قرطاج أو من حركة نداء تونس مثل الحزب الجمهوري وحزب آفاق تونس وحزب البديل ومشروع تونس وحزب المستقبل وتونس أولا وغيرها.
وترأس هذه الأحزاب المؤتلفة بمناسبة الانتخابات البلدية شخصيات هامة لها وزنها على الساحة وماضيها السياسي مثل كمال مرجان وزير الخارجية الأسبق وأحمد نجيب الشابي الذي تزعم المعارضة التونسية في وقت ما زمن بن علي ومهدي جمعة رئيس الحكومة الأسبق ومحسن مرزوق الأمين العام السابق لحركة نداء تونس ومستشار رئاسة الجمهورية. فهل يكون هذا الائتلاف الجديد بديلا لتحالف النداء والنهضة في انتخابات 2019 ويتمكن من بناء قدراته والتأسيس لكتلة وسطية قوية قادرة على قيادة البلاد؟
ماجد البرهومي