ميشال أونفري هو برنار ليفي مقلوباً… أو الشرق وليمةً للغرب

كيف يمكن لفيلسوفٍ غربيٍّ همُّه إدراك فكرة المادة بوصفها نسقا ترانسندانتاليا وحيدا لتسلّق آفاق الرؤية الماورائية، التي طالما أرّقت المتن الفلسفي الغربي من أرسطو وأفلاطون إلى هايدغر وكيركغارد مرورا بنتيشه وكانط، أن يتحول إلى فقيه ضليع في الحديث عن القرآن الكريم وعالِم خبير بمُحكَمِه ومُتشابهه وبناسخه ومنسوخه وبآياته الثابتة وآياته المُعطِّلة؟
وما هو مستوى التحوّل الخطير الذي حصل داخل الموضوعة الفلسفية الغربية لكي يرجع الفيلسوف الغربي إلى مجال طالما اعتقد أنه قُتل بحثا من طرف آبائه المستشرقين في بداية الاحتكاك الحديث بين الشرق والغرب باحثا عمّا يعتقد أنه حلقة افتقدها في فهمه وفي تحليله لجدلية الصراع بين الشرق والغرب؟
وهل تحوّلَ الاهتمامُ الغربي بالشرق من انشغال بالشرق بوصفه إنسانا مُفتقِدا للوجود، كما كان من طرف الأجيال الأولى من المستشرقين إلى الاشتغال عليه بوصفه قرآنا مُدركا لافتقادِه الوجودَ، كما يحدث الآن مع الكثير من المثقفين الغربيين المهتمّين بجدلية هذا الصراع؟
وهل ثمة من سرّ جديد يربط بين القرآن والإنسان اكتشفه أو يريد أن يكتشفه الغرب فجأة بعد كل هذا التاريخ المضيء للهيمنة الغربية المعاصرة؟ ولماذا يتم وضع القرآن الكريم بالذات في بؤرة الاهتمام الفلسفي الغربي، في حين أن المتن ما بعد الحداثي الغربي قد بُني على تجاوز المتن الاستشراقي الفيلولوجي، من خلال تحييد فاعلية النصوص المقدّسة بالتعبير المابعد حداثي، سواء أكانت توراتية أم إنجيلية أم قرآنية، من خلال إخراجها من مجال الموضوعة الفلسفية الغربية، كما تبلورت في المتن الحداثي للوصول إلى إبطال مفعول تأثيرها في الإنسان المعاصر بوصفه وديعة ما بعد حداثية تولد وتعيش وتموت وفقا لرؤية مُشيّئة داخل الاشتغال المصلحي الغربي بمصيره؟

* * *

لعل أغلب الأفكار التي يرددها ميشال أونفري على مسامع من يسميهم بالبروليتاريا الجديدة التي يبشر بميلادها في الغرب، والتي تتغذى من راهن غربي غير قادر على التصدي لأزماته الاقتصادية هي، في حقيقتها، أفكار مطروحة في الطريق منذ سنوات في العالم الشرقي، وكانت محل اشتغال فكري وسياسي من طرف مثقفيه المقهورين وجوديا وسياسيا واقتصاديا من طرف أنظمة عربية منغلقة على نفسها، جرّاء ما تعايشه من تهاوٍ مُريعٍ لأبنيتها الورقية، ومن زوالٍ خطير لرصيدها النضالي الذي بنت عليه أسطورتها السلطوية المتمثلة في الدولة الوطنية الحامية للذات من أي خطر داهم. فهل كان يجب على المثقفين الغربيين الإصغاء الجاد للمثقفين العرب والمسلمين، وهم يصدحون منذ عشرات السنين بما يعتقد أونفري وغيره أنهم خلصوا إليه بتجربتهم الفكرية والفلسفية العميقتين؟ وهل كان يجب أن يُفَكَّك عالمٌ شرقيّ بأكمله من صورته التي ركبها الغرب في القرن الماضي، من أجل أن يكتشف الجيل الجديد من فلاسفة الميديا الغربيين أن الشرق لا يزال وليمة غنية للغرب المستعد للانقضاض على فريسته المفضلة مثلما حدث في القرن التاسع عشر؟

* * *

ثمّة تشابه مقلوب بين معركة سارتر/كامو التي جرت في مرحلة تاريخية حساسة هي مرحلة الثورة على الاستعمار، وتأسيس دويلات ما بعد الكولونيالية، وبين معركة ميشال أونفري/برنار ليفي التي تجري بصورة أقل وقعا، ولكنها أعمق تأثيرا في مرحلة حساسة هي العودة إلى الاستعمار بعد فشل مشاريع الدويلات الوطنية. ومثلما دلّت المعركة الأولى على انقسام النخب الفرنسية حول الاستعمار الذي كان ميدانه الشرق المُستعمَر، فإن هذه المعركة تدل على انقسام النخب نفسها حول المسألة نفسها، إي حول وضعية الإنسان الشرقي المُستعمَر في منظومةٍ فكرية وسياسية مُهيمِنة يصبح بموجبها الإنسان الشرقي قاسما مشتركا ذا مصير مجهول في معادلة ذات معلومين، يحاول كل منهما أن ينتصر للذات المُستعمِرة من خلال تبنّيه لطروحات تبدو متصارعة في ظاهرها، لكنها تصب في مصبّ مصلحيّ واحد هو تحديد دور جديد للإنسان الشرقيّ داخل المشروع الفلسفي الغربي الذي يحاول استشراف رؤى جديدة داخل ما يتيحه المستقبل القريب من مستجدات تكنولوجية وإعلامية سيكون لها تأثير بالغ على واقع المجتمعات عموما، وذلك بالنظر إلى ما يحمله العصر من تسارع في تجديد الأفكار بما هي عامل حاسم في الانتصار للذات الحضارية الغربية، الذي لا يمكن أن يتم إلاّ بإخضاع الإنسان الشرقي إلى التصور الأحادي الغربي المبنيّ على فكرة التسيّد المدعوم بقوّة التكنولوجيا والذي يدعو إلى ضرورة تحويل الشرق إلى وليمة دسمة للغرب.
ولعل إشكالية الذات والآخر التي حدّدت مسار النقاش الفلسفي بين سارتر وكامو، هي نفسها التي تحدّد مبدأ الخلاف بين أونفري وليفي، على الرغم من اختلاف زوايا الرؤى لكلا الزوجين من القضايا المطروحة في زمن الاستعمار بما تمثله شجاعة سارتر وتخاذل كامو تجاه القضية الجزائرية، وبما تمثله مواقف أونفري وليفي من القضية الفلسطينية، في راهن المساءلة الفلسفية الغربية. ولعل ثمة أدوارا مقلوبة غير واضحة المعالم يقوم بها المثقفون الغربيون المعاصرون بالنظر إلى وضوح الرؤية التي كانت تميز الصراع الفكري حول القضايا المصيرية في الغرب. ففي حين كان كامو يسعى إلى تحقيق نظرة توسعية مبنية على تمركز الذات الغربية في سُرّة الوجود الشرقي وتأكيد أحقيتها في إعادة تشكيل هويته وفق رغبة وجودية مصبوغة بإنسانيةٍ ما بعد كولونيالية، نجد أن مواقف سارتر كانت واضحة من قضايا تصفية الاستعمار في الجزائر، خاصة إلى الحد الذي جعله يقف ضد الذات المنتمية لمنطق الهيمنة والانتصار للآخر، الذي طالما اعتبره جحيماً وجوديا. وهذا ما لا يستطيع برنار ليفي أن يقوم به، نظرا لتماهي البعد الثوري الذي يدّعيه رواد ثورات الربيع العربي مع التصور الغربي للحرية التي لا تتحقّق إلا باستدعاء المُستعمِر من أجل إنقاذ الشعوب من الديكتاتوريات المحلية. ولعل هذا ما يخدم أفكار برنار ليفي الساعية إلى بسط هيمنة غربية شاملة على الشرق تحت غطاءٍ إنسانويّ يستند إلى مبدأ الحق في التدخل كوصفةٍ كولونيالية جديدة في شرق أوسط غنيّ بالثروات، ولكنه منزوع من عناصر قواه الحقيقية التي يرى الغرب أنها تشكل خطرا على بقاء الدولة العبرية في قلب الشرق وهي:
أ – عنصر العروبة بوصفه عاملا مُوحِّدا وجامعا للذات الفوق قومية، نظرا لما حمله مفهوم القومية من مغالطات تاريخية وواقعية، كما رأينا ذلك مع تقويض مبدأ اللائكية الذي يدعو إليه من خلال ضرب الدولة البعثية في العراق وتفتيت قوّة المواجهة العربية في سوريا، على الرغم مما يمكن أن يقال عن أنظمتهما الاستبدادية.
ب- عنصر الإسلام باعتباره محيلا للقرآن الكريم، كما يهتم به المثقفون الغربيون حاليا نظرا لاعتباره نواةً تعبوية مُحرّكة لعنصر المقاومة داخل الجسد الشرقي المريض وبوصفه، من ثمّة، عاملا مُوحِّدا وجامعا للذات الشرقية ببعدها الديني، كما رأيناه مع خلق فزّاعات الإيديولوجيات الإسلاموية في كل من أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن، وذلك من أجل تحرير العقل الغربي ممّا يمكن أن ينتابه من حرج إزاء حالات التقتيل المنهجي للإنسان الشرقي المسلم في بورما وأفريقيا التي يسكت عنها الغرب بتبريرات سياسيوية لا تتعدى الإطار الذي يؤسس للشمولية والهيمنة بما تمثله من نشرٍ لقيم الحرية والديمقراطية والعدالة والانتصار للإنسان عموما، والمرأة على الخصوص في مجتمعات لم تعرف تسيير رصيد النضال الذي حققته من ثورات أدت إلى تأسيس الدويلات الوطنية، كما لم تعرف تسيير رصيد ريع النفط الذي بذرته من أجل بناء مناعة ثقافية وهوياتيةّ ينادي بها مفكرو الغرب أنفسهم وتكون بمثابة الحصن الدافع لتشتّت منظورات الدويلات الوطنية عند أول محاضرة يلقيها مثقف غربيّ أمام جمهور عربي متعطش لما لمْ يسمَعْه من أفكار مثل التي يدعو إليها إنسانويّو الغرب من أجل التأكيد على الحق في التدخل، كما نادى به برنار ليفي وبرنار كوشنار منذ ثلاثين سنة، وكما ينادي بوقفه ميشال أونفري الآن.

* * *

فما هي مصلحة فيلسوف مثل ميشال أونفري في تبني الأفكار التي حملها المثقفون العرب المتنورون منذ قرن ثقلا وجوديا يحاول إنقاذ الإنسان الشرقي من دون أن تجد لها صدى؟ وما مصلحته في التأكيد على تبنّي قلب المقولات البرناردية في فترة يعيش فيها الغرب تبعات الوجه الآخر لميدالية الانتصار للقيم الديمقراطية من أجل تبرير التدخل والانتصار للقيم الإنسانية لقبول اللاجئين المهجّرين من أجل إفراغ الدول المعنية بالتخريب المنهجي من طاقاتها الحيوية لتقويض مبدأ القدرة على المواجهة؟ وهل يمكننا أن نتصوّر أونفري إنسانيًّا إلى درجة الوقوف في وجه الذات الغربية المغلقة على قيم الهيمنة من أجل الانتصار للآخر، على الرغم من تمجيده لكامو على حساب سارتر، وعلى الرغم من انتهاج برنار ليفي لفكرة سارتر المتمثلة في النزول بالفلسفة إلى الشارع، على الرغم ممّا كان يحمله سارتر من فكر نضالي تحرّري وما يحمله ليفي الآن من رؤية كولونيالية؟ أم هل يمكننا تصور أونفري فيلسوفا محافظا لا يهمّه مصير الإنسان الشرقيّ المرميّ جثثا هامدة على الشواطئ الفاصلة بين الشرق والغرب، بقدر ما يهمّه مصير الذات الغربية المتأصلة داخل منابعها الثقافية والمعتنية بمصالحها للحفاظ على خصوصياتها؟ ولعلها النظرة التي طرحت السؤال حول ما إذا كانت هذه النظرة ذات توجه فلسفيّ نحو أفكار يمينية متطرفة من قبل فيلسوف طالما دافع عن انتمائه لليسار؟

* * *

ربما كان أونفري، وهو يقوّض الأفكار التي روّج لها برنار ليفي في عالم عربي وإسلامي مرهون للبيع من طرف أبنائه مخذولي الهوية ومسلوبي الحرية بسبب أنظمة استبدادية هرمة، يحاول أن يلعب في ميدان مستقبلِ ما يمكن أن يقع للغرب بوصفه فزاعة للشرق وللشرق بوصفه وليمة الغرب، وهو ميدان يتجاوز الأفكار المابعد حداثية إلى الأفكار البعد ما بعد حداثية كما يصفها بعض مثقفي الغرب القانطين من نتائج ما حققته موجة ما بعد الحداثة من هدم منهجي للقيم الإنسانية المشتركة، جراء ما حققه الغرب من تمركز مصلحيّ داخل ما يدعو إليه من انفتاح، ومن هيمنة بناء على ما يدعو إليه من حق في التدخّل ومن تدمير جراء ما يدعو إليه من واجب الإنقاذ، على عكس برنار هنري ليفي المهووس بالتمركز داخل اللحظة التاريخية واقتناص محركها الأساسي من أجل استخدامه في إدارة الأزمات في صالح رؤيته الإيديولوجية. إنه الهوس بالممارسة الفكرية من داخل راهن الفعل السياسي لأجل التحكم في مسارات الحراك الاجتماعي في العالم العربي والإسلامي خاصة، وتوجيه طاقاته الفائضة إلى النهر الخالد للغرب المهيمِن وهو يقضّ مضاجع الشرق النائم على أحلام قروسطية القرن الواحد والعشرين تماما كان ينام على الأحلام نفسها قبل ما سميّ نهضة عربية بداية القرن العشرين.

* * *

ربما كان كلّ من أونفري وليفي صورة مقلوبة للآخر في واقع الممارسة الفكرية الغربية التي لا تستطيع أن تُوقِف آلتها العاملة مثقال لحظة نظرا لحاجة الغرب إلى تجديد دمائه بالأفكار الفلسفية من خلال إنتاج ما هو أكثر فاعلية فيها داخل أنساق لا تريد لقوة أخرى، هي أبعد من أن تكون شرقية في نظره، أن تصير بديلا لها من أجل فرض هيمنة مستديمة لغربٍ متمركز فلسفيا وكادح عمليًّا نحو مستقبله على شرق مشتّت وجوديا وثاوٍ معرفيا على ماضٍ أصم. ولعله ليس العشاء الأخير الذي يكون فيه الشرق وليمةً للغرب بحضور السيد المسيح أو بدون حضوره.

كاتب جزائري

عبد القادر رابحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Maroc:

    مقال جيد يوحي بسعة اطلاع صاحبه على الثقافة الراهنة بأناقة وفهم سريع لواقع العالم العربي المنهار

  2. يقول S.S.Abdullah:

    مع الأسف أنَّ العلمانيين والليبراليين من المسلمين، يحاربون تعليم لغة القرآن بواسطة القرآن، فهل هناك شيء أضبط من قراءة القرآن، يمكن أن نتعلّم من خلالها، مخارج الحروف وطريقة لفظ الألفاظ والصيغ البنائية للكلمة؟ ومن هنا أساس جهلنا بلغتنا الأم، فالمزاجية الانتقائية في طريقة تعليم اللغة أي لغة كانت، لا يمكن أن تعني أو لها أي علاقة بالبيان والبلاغة، ومن يقول ذلك جاهل يجب تنبيهه على جهله، أمّا من يظن في ذلك أي شيء من المنطق أو له علاقة بالعلم، فهنا هي المأساة والفضيحة في نفس الوقت على الأقل من وجهة نظري، فلا أظن سينجح أي مدير بدون إجادة لغته الأم، فالإدارة تتطلب لغة صحيحة، في الفهم، ومن ثم في التعبير، للتواصل مع الـ آخر، كي يؤدي ما هو المطلوب منه تأديته، بطريقة صحيحة من أول مرة، كمعيار للمنافسة.

    أنا لاحظت إشكالية من يؤمن أو يتعامل بأسلوب الغاية تبرر الوسيلة، الإصرار على إخفاء جزء من الحقيقة عن عمد وقصد، ولذلك لا يصلح أيّا منهم في أي مهمة نقدية، على الأقل من وجهة نظري.

    فمثلا لا أظن هناك أي نزاهة عندما نقوم بتغييب معلومة مهمة لتوضيح موقف برنارد هنري ليفي فهو تاجر سلاح، وكل همّه بيع أسلحة من كل تحركاته، ورجل بلا مبادئ ولا أخلاق إلى درجة قام ببيع صور زوجته العارية لكي يصرف على ملذاته، وأي منطقة لم يستطع الحصول على صفقة بيع سلاح منها، يقف ضدها على طول الخط، ومن هذه الزاوية نفهم موقفه من الكيان الصهيوني ضد القضية الفلسطينية، على سبيل المثال لا الحصر.

    ثم من قراءة ما ورد أعلاه حقيقة لم أفهم هل الكاتب يمثل أهل الغرب في نظرتهم لنا؟ أم هو منّا ويحاول فهم كيف ينظر الآخر لنا؟ فالضبابية اللغوية في طريقة العرض والاسئلة التي يطرحها المقال لم توضح لي لغة تفكير الكاتب، هل هي العربية أم احدى اللغات الأوربية؟! وهذا واحدة من إشكاليات المثقف والسياسي في دولة الحداثة للنظام البيروقراطي ألا وهي الضبابية اللغوية.

    ما رأيكم دام فضلكم؟

اشترك في قائمتنا البريدية