منذ أن أصبح الهم اليومي لمعظم شعوب المنطقة العربية، محتكراً لسؤال أحادي حول من هو المنتصر أو المنهزم في هذه الساحة القتالية أو تلك، فقد تكون تحققت نبوءة الشؤم العتيقة وهي أن العرب سائرون نحو الحالة التي سيفقدون فيها حياتهم العامة. سوف تؤول مجتمعاتهم إلى أوضاع القبائل؛ هناك.. في العقل العمومي لغالبية الناس أمسى يسود نوع من اليأس السوداوي من أية فكرة أو عقيدة خلاصية؛ فلقد سدّت الهزائم السياسية المعطوفة على الفواجع الأخلاقية دروبَ التفكر، أو التأمل باستعادة تلك الثقة الطفولية بمصداقية أحلام النهضة، وإمكانية تحقق أبسط شروطها.
العرب اليوم يفتقدون أضعفَ مشاعر التضامن الانساني، وليس السياسي، ما بين مجتمعاتهم، وليس بين حكوماتهم فقط. فالعراق مثلاً بعد سورية، يكاد يرتّد إلى مرحلة القبائل المترحلة. صيغةُ الترحّل هذه ليست مجرد استعارة بيانية، إنها صورة لواقع التشرد الفوضوي الذي تفرضه الحروب الأهلوية الكبيرة منها أو الفرعية على مجاميع السكان. فالمغادرة والتنقل والترحال داخل الحدود وخارجها، كلها ظواهر أمست من وقائع الحياة اليومية المفروضة على أهالي المدن والأرياف ملءَ هذه الجغرافية الأزلية الممتدة ما بين بلاد الشام والرافدين.
هذه المنطقة التي مارست مهمات الرافعة لمختلف مراحل النهضة المعاصرة، ونكساتها كتلك، هي التي تدفع راهناً كل أكلاف الماضي الخاطئ بدون أن يتبقى لها شيء من مكتسباته القليلة أصلاً ثم المبددة أخيراً.
والمفجع في كل أو معظم النوائب هذه التي حلّت بأهل الشام والعراق منذ انهيار دولة «الجمهورية المتحدة»، كآخر ثمرة إيجابية لانطلاق مشروع النهضة العربية المعاصرة، نقول إنه المفجع فكرياً على الأقل في مختلف الكوارث المتسلسلة عن تلك الهزيمة القومية الحضارية الكبرى، هو أن عللها، أي أسبابها الحقيقية كانت مغروزة ولا تزال في عميق الشخصية المجتمعية لناس هذه المنطقة. أي أن الكارثة المركزية كانت دائماً هي أساس النفاق العمومي الرائج الذي يحجب كل استعصاء شمولي عن أسبابه الذاتية. فالسؤال المزمن الذي يطرحه مفكرو كل جيل بدون أن يلقوا له جواباً أبداً، ما يزال يبحث عن سر تكرار الهزائم الوطنية، عن السر في التدهور السريع للثورات السياسية إلى انقلابات عسكرية أو حروب أهلية.. عن تحول القيادات الوطنية إلى شخوص ديكتاتورية.. عن انعطاف الأحزاب الإصلاحية إلى عصابات فئوية، عن تحول الفلسفات الجماعية إلى أيديولوجيات طقسية. وإلى ما هنالك من كل الأطروحات الحركية ومؤسساتها النظامية من دول وأحزاب وتيارات جماعية، تلك القوى التي تولد في المجالات العامة حاملة في البداية لبعض آمال التغيير، ثم لا تلبث حتى تنقلب الحقائق إلى أضاليل، وكما تقول بعض الفلسفة إنه في نطاق الجريمة والعقاب، يبدو أن الأصعب على المذنب ليس اقتراف الخطأ بل هو الاعتراف به.
لقد دخلت شعوب هذه المنطقة جماعات ووحداناً، تحت عباءات كثيرة لشعارات الخلاص الكلي وخرجت صفر اليدين من أكثرها. ولكن تمّ ارتكاب أفدح الخطايا التاريخية في ظلها. فماذا زرعت تلك الأدلجات؟ وحدَها الانحرافات الكبيرة هي الباقية والنامية في الظل والعلن معاً. ولكن الحصيلة الدائمة كانت في المزيد من الفساد؛ فهو وحده كان عامل الثبات والتغيير ما بين كل تشكيلة سياسية أو اقتصادية وأخرى، مخلفاً وراءه هزالاً جديداً في المناعة الأخلاقية في الضمائر، لمعظم القواعد الشعبية.
وإذ تشكلت فُرق الموت أخيراً كخاتمة كارثية لعصر الإفلاس السياسي كانت هناك شعوب اليائسين بانتظار تأسيس جيوش (الجهاديين) أو هؤلاء القتلة الإلهيين، كما يحلو لبعضهم توصيف بعضهم الآخر.
أعداء النهضة العربية راهنوا، أثر كل مقدمة لمحنة قادمة، أن يُعهد إلى بعض أضلاع الحراك الجديد ابتكارُ فكر وأجهزة الانتحار الذاتي الجديد متلائماً مع ما يُدْعى عادة بـ تحديات «المرحلة التاريخية»؛ وهذه قصص ثوريات «الربيع» المشرقي المسروق تقدم شواهد وبراهين يومية خطيرة عن هذه المنهجية السوداء، عن تمارينها الخفية الخبيثة في تنويع ثقافة الانتحارات الذاتية بالجملة والمفرق. فقد أمسى قانوناً أن تمتلك كلُّ هبّة شعبية أجهزَةَ تدميرها في جسدها البشري عينه قبل أن تنفّذ أفاعيلَها في أجساد ضحاياها الآخرين.
ثقافة النحرْ والانتحار ليست هي أسوأ راسب متحصل عن نفايات الأيدلوجيات الثورية الفاشلة. ليست هي كذلك فحسب كنتاج فكروي مضاد بل تجيء مرافقة لتعميم سلطة الفساد، ليس في مستوى الطبقات الحاكمة فقط، لكنها سائدة ومحركة لشبكيات العلاقات اليومية والتفصيلية ما بين الأفراد والجماعات. ذلك أن مركب الفساد لم يعد مجرد ظاهرة سياسية، أو مرضية عابرة، إذ كلما اشتد انحطاط الثورة وتحريفها نحو جاهزيات العنف وحدها، تتضاءل قدرةُ الجماعة المدنية على مراقبتها، ليغدو الفساد حراً طليقاً، ناصباً أوسع شبكة عنكبوتية مع أدواته وزبائنه، وقادرة على اصطياد كل ذي جناحين يحتك بها، أو أنها تجذبه من أبعد مكان له.
ما يحدث لمعظم أقطارنا الغارقة في بُحران الفساد هو قابليتها المتنامية لتوليد حركات العنف معها وضدها في وقت واحد. ومنذ أن تم اختراع ما سوف يسمى بالإرهاب، فقد طُرح فورياً ذلك الهدف التقليدي القديم وهو منع أو امتناع المجتمع عن ممارسة السياسة. فلعلّه أُريد للإرهاب أن يتكفّل بتحقيق بارع لهذه المهمة «التاريخية». فما أصبح يعنيه الإرهاب واقعياً هو الإحتكام سياسياً و أخلاقياً لسلطة العنف الأعمى.
فقد اكتشف الإرهاب أن الرأسمالية المتبقية للشعوب المقهورة كبديل عن الاستسلام لليأس المعمم، قد أمست هي رأسمالية الموت، بمعنى أن يكون الموت هو موضوع الاستثمار الأخير.
فحين يصير الإرهاب هو القانون الأعظم سوف تتحقق نهاية التاريخ بزوال ماضيه كلياً كما لو أنه لم يوجد أبداً من قبل. ذلك أن الرأسمالية الأبقى بعد انقضاء رأسمالية الفساد الكوني الذي يسيطر على إنسانية العالم الأخير، سوف يُعترف لها بنوع من مشروعية الدولة الجديدة وإن قامت تحت مصطلح الإرهاب، وذلك تحاشياً لمنادتها باسمها الحقيقي الذي هو سلطان الموت..
إذ أن استثمار الموت سياسياً يعني تحويله من ظاهرة طبيعية لها أسبابها الموضوعية، إلى بضائع مصنَّعة من الشعارات المعلّبة، تدفع أرواحُ الناس أثمانَها الباهظة. هذه البضائع لها أسواقها الاستهلاكية في مسلسلات الثورات الفاشلة والحروب الأهلية. ويكون العالم الثالث، وقارته العربية الإسلامية خصوصاً، أوطاناً معدّة تلقائياً لفتح جبهاته المتناسلة من بعضها. ها هنا تقوم دول الفساد المنظم شرعياً وحكومياً وحزبياً وشعبياً : كل هذه المؤسسات الرسمية، كأنها لم توجد أصلاً إلا لحماية شبكيات الفساد وتأمين تغذيتها بالأموال العامة.
هل حان الوقت أخيراً ليعرف العربي المتخم بعقد الهزائم أن العلة الحقيقية في قلب كل تنوير يخترعه إلى ظلام ووباء ودمار؟ هل أصبح على كل تفكير (عقائدي) أن يتحرر من أوهام الاختيارات ما بين الأنظمة السياسية، لكي يعلن أن نظام الأنظمة جميعها هو مركب الفساد/الاستبداد وحده؟ هل حان موعد ساعة الحقيقة التنويرية مرة أخرى من بغداد، حيثما أعلن جمهور الشارع الغاضب عودته إلى الثورة المدنية؛ شهر تموز وزميله شهر آب هما معاً زمن الثورات عربياً وعراقياً تحديداً؟ هل نحن نعيش حقاً صحوة تاريخية؟ هل تجاوزنا أهوال الكوارث الغيبية وصلواتها الزائفة؟ هل يعود «الربيع» نظيفاً وبريئاً من سقطات الآخرين الطفيليين في دروبه لإعاقته وتبديده؟
إنه صيف حار حقاً. ولعله يسجل منعطفاً مختلفاً لم تعرفه فصوله السابقة. لكن الرهان الأهم هو في كيفية استقباله والتعامل مع بداياته من قبل نُخُبنا التائهة، قبل أن تتصيدّه الوحوشُ القديمة إياها.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي
الفساد مرض عالمي يشمل كل الدول بدون استثناء و معالجته تحتاج للاجيال – في ظل الاوضاع العربية الراهنة لا يمكن معالجة بالفساد لا بثورة مدنية و لا بحصر الحالة العربية الراهنة ببعض الاشخاص الفاسدين – الاهم الان هو لم الشمل و التوحد و الوفاق بين جميع القوى و الاقليات العربية استنهاض العروبة ووحدتها و استقلالها عن الغرب هو المسار الجدي للخروج من الحالة الراهنة – و الاهم هو ابتعاد المفكريين و الاعلاميين الابتعاد عن اجندة المال في كتاباتهم –
ليس يوسعي بأكثر من أن أهنيء كل فكر وضمير عربي لم يزل بقادر على ادراك الكارثة …بأن يستلهم من كلمات الأخ الرائد مطاع منافذ للآنارة والاستنارة بها مساهمة في كل ومضة جهد تستهدف ( تشخيص عوامل الكارثة المطبقة ، أملا لوضع نقاط على حروف …العلاج …المتوخاه ؟؟) ان عوامل الاحباط نتيجة ( الاجهاض ) لكل حركة نهضوية قامت ونرجو أن تتواصل …هذه العوامل تتربع صدارة ما يتحمله الفكر المنير الخيّر ..؛ كوارث أحداث أمتنا والناتجة عن ( قلب ..وتبديل أمواج الخير …الى كهوف من الظلام) لهي في رأيي قناعة ، فقدان ليس البوصلة بل ..فقدان الصفاء في الرؤية وفقر في الوعي التاريخي لأم أزماتنا نتيجة عامل ( تغييب الوعي ) والمبرمج من الحاضة الكبرى للآنتقام والهدم … ؛؛ . سوط تقبض على مقبضه يد المتربص ومنذ أجيال قائدة لمحور ( الصراع الحضاري ) لأمتنا مع الغرب والمصّـر ..على التشبث بارادة الاذلال .؟؟ فليس هناك اعتقادا شبه راسخ ، من أن هناك جرثومة تسمى ( الخيانة أو الاجرام الفطري ) تكمن في ضمائر معظم أبناء أمتنا ، لكن العلة الكبرى والتي أضحت متأزمة لدرجة الاستعصاء هي سطحية الوعي والمجروفة انهيارا تحت عبء الوعي المغيب ؛؛؛ هذا الوعي الرائد والمرتجي _ نجح ) …الفاسـدون …قادة الفساد والجريمة ، نجحوا في تطويره وتحوبل مجراه الطاهر الى بوتقات من الهرج السياسي بل والعهر السياسي المبرمج ؛؛؛ ان على كواهلنا أن تتحمل وأن ترفع وتزخم الدفع في حملات توعية من سيق بهم الى وديان الجهالة المتعمدة .؛؛ ان مسؤليتنا لا تعرف حدودا للعطاء أو للزمن .؟؟ انها فريضة أملاها ولم يزل يمليها علينا حق وشرف الانتماء لهذه الأمة التي تشعبت طرق فلسفة معايير الفكر لها وبهــا ؟؟ انها معركـة ( مقدسة ) وفي كل اجلالهـا ..؛؛ الآنتمــاء ، تعريف الهوية العربية ..؛ وضع حق وجودها ضمن اطار طاهر مستلهما شرعية الوجود المستحق لأمـم الأرض قاطبة .؛؛ فلنقف في وجه الطاغوت المقدس للجريمة .؛؛ ولننزع القناع عن وجوه الدعارة الدينية ظلما للقدرة الالهية المعصومة .؛؛ لنبدأ الخطوة الأولى .؟؟؟وليكن كل منا حرف في كلمات وسطور لنيل شرف ولوج تاريخ علينا فريضة اعادة كتـــابته .د/ طارق الخطيب ـ القومبون العرب