هوامش لبلد غير نافع

حجم الخط
1

ـ في كتابه عن الشاعر والكاتب والصحافي جورج حنين أحد رواد الحركة السيريالية في مصر، يصف الكاتب العراقي الأصل ساران ألكسندريان، الفترة التي عاشها حنين في ظل الحكم الناصري، بأنها كانت فترة أصبح فيها مناخ القاهرة ضاغطاً بالنسبة لحنين، الذي لم يكن أكثر رضاً عن الناصرية منه عن النظام القديم، ولذلك كتب يقول إنه يعتبر أن النزعات العرقية، والوشاية والكذب، والتجهيل الأيديولوجي، والاكتفاء الذاتي الثقافي المنغلق عن العالم، أصبحت تشكل في الجزء من الشرق الذي يعيش فيه «أسس المواطنة الجديدة»، ولذلك شعر جورج حنين بالنفي الداخلي الذي أصبح ظاهرة عالمية في العصر الحديث، حيث يسود الإنسان الشعور بأنه غريب في بلده، لأنه لا يفكر كالآخرين، فيجد نفسه مجبراً على الصمت، لكي لا يتعرض للفقر أو العزل والتضييق في رزقه، خاصة بعد أن أصبحت مغادرة الأراضي المصرية «بصعوبة الفرار من سجن الكاتراز وبإنهاكه»، كما كتب حنين مشيراً إلى أشهر السجون الأمريكية الذي صورت أفلام كثيرة عن المحاولات الفاشلة للفرار منه.
كما يقول ألكسندريان الذي عرف حنين عن قرب، كان أكثر ما يغيظ جورج هو أن يرى نفسه محاطاً بجو الديكتاتورية، «ننحدر مع طلوع كل شمس أكثر فأكثر في الجمود السلطوي للأمير ذي الأنف الشبيه بعمود الإشارات.. الأنف الشبيه برئيس تشريفات في قصر مقفر»، كما كتب واصفاً عبد الناصر، الذي كان أغلب الكتاب والفنانين وقتها يتغزلون في مزاياه ومحاسنه، ويطالبونه بمزيد من الجمود والتسلط ليجعل البلد «أعظم»، في حين كان جورج حنين يكتب في «ملاحظات لبلد غير نافع» متنبئاً بأن ذكاء الديكتاتور الذي يصغي في الليل خلسة إلى هذيان عبدة السلطة السريين سوف يخونه.
ومع أن جورج حنين لم يكن يعارض في العلن، بعد تأميم المعارضة واعتمادها خيانة عظمى، واكتفى بممارسة عمله الإداري في صمت، لكن السلطة الناصرية شعرت بأن أداءه الصامت ليس مريحاً لها، فوجد ذات صباح وهو يدخل إلى مكتبه في (جناكليس) عقيداً يجلس على المكتب ويخبره بأنه مفصول من عمله، ليهاجر إلى أثينا، ويقضي طيلة عام 1960 في انتظار زوجته التي كانت تتم في القاهرة الشكليات الأخيرة للهجرة، فيكتب حينها: «أنا حزين إلى أبعد الحدود، ثمة حاجة لطاقة لم تعد متوفرة لي لإعطاء معنى للعالم، لكن من جهة أخرى، إنه لمنهك أن يعيش المرء إلى لا انتهاء في انعدام المعنى، نحن الرهائن السيئون لقضية لم يعد لها اسم». لتعيش مصر منذ ذلك الوقت عدة هزائم، واحدة منها فقط بعد حرب عسكرية، وتواصل حكوماتها الفتك بمن يرفضون تأميم المواطنة، وتستمر في نفيهم داخلها وخارجها، ومع أن ذلك كله أكسب كلمات جورج حنين بعض المعنى، لكن ذلك لن يخفف معاناة كافة الرهائن، خصوصاً الذين لم تعد لديهم طاقة لإعطاء معنى للعالم في بلد غير نافع.
ـ لماذا تكتفي بانتقاد نظام الانتخاب بالاقتراع، وتسهب في عرض عيوبه التي تفرز ديمقراطية شكلية يستغلها الأثرياء وأًصحاب النفوذ، إذا كنت تستطيع اقتراح بديل لذلك النظام؟ هذا ما فعله أحد أبطال رواية «يوميات عام سيئ» للروائي ج. م. كوتزي الحاصل على نوبل للآداب، التي ترجمها أحمد هلال ياسين وصدرت عن سلسلة الجوائز في الهيئة المصرية العامة للكتاب، بادئاً فكرته «الجديدة رغم قدمها الساحق» بالإشارة إلى أن الملوك كانوا يقولون لرعاياهم قديماً: لقد كنت أحد رعايا الملك أ الذي مات، والآن أصبحت أحد رعايا الملك ب، ثم جاءت الديمقراطية فخيّروا الرعايا بين اختيارين لأول مرة: أتريد أن يحكمك المواطن أ أم المواطن ب. ليتحول الناس من رعايا إلى مواطنين يحظون بحق الاختيار، لكن مشكلة هذا الاختيار أنه محدد بصياغة لا تقبل تعدد الاختيارات، فلا نرى في بطاقة الانتخاب السؤال التالي: أتريد أن تنتخب أ أو ب أم لا تريد أحدا على الإطلاق، وحين يرفض المواطن استدراجه لانتخاب واحد من بين اثنين، ويفصح عن استيائه، بالامتناع عن التصويت، إو إفساد صوته الانتخابي، يلقون بطاقته في سلة المهملات.
للأسف يشعر الكثيرون بالاستياء عند تخييرهم بين أ و ب، فيختارون أحدهما وهم يلعنونه في أعماقهم، لكن هذا الإحساس بالخيبة لا تأبه له الدولة، لأن الميول والرغبات ليس موضع اهتمامها، فكل ما تهتم به اصطناع الديمقراطية منهجاً للحكم يقوم على الاختيار، مع أن الشخص العادي ربما يسرح قليلاً ثم يقول: إنني أميل أحياناً إلى اختيار أ وتعابثني في أيام أخرى رغبة صادقة في منح صوتي إلى ب، ولكنني في معظم الأحيان أجد نحوهما نفوراً ثابتاً يوشك أن يكون كراهية، أو يقول: ثمة جوانب في شخصية كل منهما تستميلني أحياناً، بيد أنهما يثيران في نفسي الكراهية في أحيان أخرى، وأتمنى لو سنحت فرصة لاختيار شخص ثالث، لكن الدولة تهز رأسها تجاه هذه الأفكار هزة الإباء والرفض، وتقول للمواطن: لا تصدع رأسي بهذه الثرثرة الهاذية.
يذكرنا بطل رواية كوتزي بأنه كما كان من السذاجة إبان عهود الملكية أن يعتقد المرء أن الابن البكر للملك سيكون الأصلح للقبض على زمام الحكم، فإنه من السذاجة في عصرنا الحالي أن نعتقد أن الحاكم المنتخب القادم من صناديق الاقتراع سيكون الأصلح، صحيح أن التسليم بنتائجه يمكن أن يقي البلاد من نيران الحرب الأهلية، لكن عد الأصوات الانتخابية هو في النهاية وسيلة لفرز من يحظى بأعلى الأصوات نبرة وأشدها غلظة وجهارة صوت، لذلك ربما كان الحل أن نحتكم للقرعة، باستخدام عملة معدنية لنختار من بين عدد من المرشحين، من واقعته القرعة منهم كان هو الحاكم، وهو أسلوب يرى بطل الرواية أنه يمكن أن يعتبر مثالاً على حكم القدر، الذي يجب ألا يستثير الجدل. صحيح أن إجراء القرعة كما يقول يقترن في الأذهان بالقمار وما يثيره في النفس من كراهية واشمئزاز، لكنه يتساءل عمن يجرؤ على أن يدعي أن العالم لو تم تطبيق الانتخاب بالقرعة سيكون في وضع أسوأ مما هو عليه في ظل الحكم الوراثي والانتخاب بالاقتراع، ولا أظنك مهما رفضت تلك الفكرة تختلف معه في هذه النقطة بالذات.
ـ في رواية «البيت الصامت» للكاتب التركي أورهان باموق الحائز نوبل للآداب أيضاً، التي ترجمها عبد القادر عبد اللي، وصدرت لها طبعات عن دار المدى العراقية والشروق المصرية، يتساءل بطل الرواية عن ماهية التأريخ، الذي يجب أن يكون في رأيه أمراً غير كتابة المقالات التاريخية، أو تحويل بعض الأحداث إلى قصص، فيقرر بعد تفكير أن التأريخ ربما كان على النحو التالي: «نبحث عن أسباب عدد من الحوادث ثم تشرح هذه الحوادث حوادث أخرى، وعمرنا لا يكفي لأن تشرح تلك الحوادث حوادث أخرى، ونضطر لترك هذا العمل في مكان ما، ويأتي آخرون لمتابعة العمل من حيث انتهينا، ولكنهم عندما يبدؤون العمل يرون أننا شرحنا حوادث بحوادث خاطئة». ولا أظنني قرأت شرحاً وافياً كافياً لفكرة التأريخ ومهنة المؤرخين أفضل مما سبق، وإن كنت تعتقد العكس فاخطف رجلك إلى حيث تستقر كتب التاريخ التي يدرسها أولادك، وتذكر ما درسته قبلهم، وستتفق مع هذه الفكرة مسلماً أمرك لله ولحركة التاريخ.
٭ كاتب مصري

هوامش لبلد غير نافع

بلال فضل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبادة:

    هذا النظام اسمه الحكم العسكري، أسسه البكباشي عام 52، ولايعترف بتداول السلطة أو الديمقراطية أو الحرية. وإذا أجرى انتخابات فمن قبيل إني لا أكذب ولكني أتجمل. فوجوده يعتمد على قوة الدبابة وصندوق الذخيرة، ومعه مجموعة من الطبالين والزمارين يغنون له: تسلم .. تسلم حتى ينتشي ويتسلطن، ويقول سرا وجهرا : ما علمت لكم من إله غيري، فقد استخف بالقوم الفاسقين، وجعلهم يرددون مقولاته الكاذبة وأحلامه الحرام، ويستمرون في الوهم حتى يلحقهم الغرق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

اشترك في قائمتنا البريدية