كانت البداية في مقهى «كسيت» في شارع ديزنغوف في تل أبيب، في مطلع الستينيات، عندما دعاني الشاعر الفلسطيني الراحل، راشد حسين (وهو الأول والأكبر سنّاً بين من عرفوا لاحقا باسم «شعراء المقاومة»)، إلى هناك، وكان هدف الدعوة تقديمي إلى أوري أفنيري، الصحافي اليساري الإسرائيلي، صاحب ورئيس تحرير مجلة «هعولام هزي»، واسعة الانتشار، التي كانت المنبر الوحيد في إسرائيل لمواجهة سياسات الحكومة الإسرائيلية، وفضح وإدانة عنصريتها ضد الأقلية الفلسطينية العربية في إسرائيل.
دار بيني وبين أفنيري يومها بعض حديث، وأخذت انطباعا إيجابيا عنه، خاصة عندما تبين لي اهتمامه الحقيقي بمعرفة مجريات اعتقال السلطات الإسرائيلية لي، بحجة واهية، هي إلصاق أوراق رسم عليها علم فلسطين، على مدخل مسجد الجزار في عكا، ولتغطي فترة الاعتقال طوال فترة التسجيل للالتحاق بالجامعة العبرية في القدس في ذلك العام الدراسي.
توالت اللقاءات بعدها، حيث حرصت في كل مرة أصل فيها إلى تل أبيب، على زيارته في مكتب المجلة، أو في أي من المقاهي القريبة، مع تفضيل لمقهى «كسيت»، الذي كان العنوان المفضل لالتقاء صحافيين وكتاب وفنانين وسياسيين، وما يعرف بالـ»بوهيميا» الإسرائيلية، مثله في ذلك مثل «مقهى ريش» في القاهرة، أو «كافيه دو لا بيه» في باريس، أو الـ»هورس شو» و»دولتشي فيتا» في بيروت. وفي أحد اللقاءات التي شارك فيها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، طرح موضوع إصدار نسخة بالعربية لمجلة «هعولام هزي» باسم «هذا العالم»، وتم الاتفاق على ذلك، مشروطا بأن تتضمن النسخة العربية ترجمة لافتتاحية المجلة ولمقال أفنيري، ونتولى نحن نشر ما نراه من أخبار ومقالات تهم الشارع العربي في إسرائيل. هذه العلاقة كثفت اللقاءات بيننا، وسعدت بها، حيث تكشفت لي حقيقة إيمانه الراسخ بالحقوق الشرعية لشعبنا الفلسطيني، وكان أفنيري هو أول من سمعت منه تعبير «دولة فلسطينية مستقلة الى جانب دولة إسرائيل»، وإن هذا هو الحل الوحيد، وإن ذلك سيتحقق بكل تأكيد، إن لم يكن عاجلا فآجلا، وكلما كان تحققه أسرع، كان اختصار المعاناة وخسارة الأرواح والدماء والدموع أكبر. انقطعت علاقتنا المباشرة عند مغادرتي لإسرائيل تسللا الى سوريا، والتحاقي بحركة «فتح» بعد أقل من شهرين على حرب يونيو/حزيران 1967، لأتفاجأ في مطلع السبعينيات باتصال هاتفي من الشهيد سعيد حمامي، ممثل منظمة التحرير في لندن، أبلغني فيه تحيات من أفنيري ورغبة في اللقاء. نابت الرسائل المتبادلة بيننا عن اللقاءات المباشرة، ثم كانت المفاجأة الكبرى في اللقاء الأول بعد الانقطاع، في ظروف غاية في الغرابة، شكّلت بالنسبة لأفنيري واحدة من أهم المراحل في حياته المديدة. بدأت قصة اللقاء عندما أبلغني الزعيم الفلسطيني الخالد ياسر عرفات، ليلة الثالث من يوليو/تموز 1982، (وكان قد مر شهر كامل على بدء الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان وحصار بيروت الغربية)، أن عامل بدالة التلفون في المكتب أبلغه قبل قليل باتصال أفنيري من بيروت الشرقية، وطلبه اللقاء به، وكذلك إجراء مقابلة صحافية معه لمجلته «هعولام هزي».
أدرنا حول هذا الاتصال نقاشا معمقا حول كل ما يمكن أن يخطر على البال، وكانت النقطة الأهم في النقاش هي التشكيك في أن يكون المتصل قد انتحل شخصية أفنيري، وأن وزير الدفاع في الحكومة الإسرائيلية، أرييل شارون، قد فشل في كل محاولاته العديدة لاغتيال عرفات، فلجأ إلى حيلة إرسال صحافي إسرائيلي مناصر لحقوق الفلسطينيين، ومتابعة تحركه إلى حين التقائه مع أبو عمار، والنجاح في تحديد مكان تواجده بدقة، وقصف وتدمير المبنى بكامله، على غرار ما حصل لبناية عَكَر في شارع مدام كوري في بيروت، التي دمرت بالكامل بقذائف فراغية، بعد أن غادرها عرفات بدقائق.
استأذنت الأخ أبو عمار، واجريت اتصالا من غرفة مكتبه، بعد منتصف الليل بقليل، مع الرقم الذي سجله عامل البدالة، وسألت الشخص على الطرف الآخر ما إذا كان يرغب بالتحدث باللغة الإنكليزية أم العبرية؟ واكتشفت أن المتحدث هو أفنيري الذي استطعت تمييز صوته ولكنته بالعبرية المتاثرة بلغته الألمانية الأصلية. وفاجأني بالسؤال عن هويتي، مؤكدا أن صوتي الذي يسمعه ليس غريبا عليه، فعرّفته بنفسي، وحذرته من أن يكون مراقبا من الأجهزة الإسرائيلية، وأن يكون مجرد طُعم في المصيدة، لجريمة جديدة يرتكبها شارون. تأكدت من شخصية أفنيري، ووثقت، إلى حد ما، بما قاله واستبعدت، إلى حد ما أيضا، أن تكون كل هذه الحكاية مصيدة، فحددت له نقطة الحاجز الفلسطيني في منطقة المتحف في بيروت، ليكون عند الساعة العاشرة صباحا هناك، ويسأل هناك عن «الضابط أحمد». أعدت سماعة الهاتف، وسألني أبو عمار عن انطباعي ورأيي، فأبلغته، وأكّدت كثيرا على ضرورة مواصلة الحذر وأخذ كل الاحتياطات. كان أولها ان يتولى الاخ فتحي، كبير مرافقي أبو عمار عملية إحضار أفنيري، وان ينتحل اسم «الضابط أحمد» وأن يرافقه غازي خوري، مساعد الدكتور عصام السرطاوي، الذي يعرف أوري أفنيري شخصيا، والتقاه مرات عديدة مع السرطاوي في باريس وفيينا وغيرها، للتأكد، بالعين المجردة، من أن الضيف هو أفنيري نفسه.
وصلنا عندها إلى مناقشة وتحديد المشاركين، وتحديد مكان اللقاء، الذي استدعت الظروف أن لا يكون أيا من المكاتب والمقار التي يدير منها أبو عمار معارك التصدي للقوات الاسرائيلية الغازية. اقترحت أن يتم اللقاء في بيتي، في بناية سكنية عادية، هي بناية بركات في شارع مدام كوري إياه. اعترض أبو عمار بشدة، لأن في ذلك تعريضا لكل عائلتي، زوجتي وبناتي، لخطر كبير. عندما أوضحت رأيي بأن اللقاء في بيت عادي، وبوجود أطفال، يعطي معاني إيجابية كبيرة، وافق أبو عمار.
تم اللقاء، وكانت مع أفنيري الصحافيتان العاملتان معه: عنات سراغوستي (المصورة)، وسَريت يشاي (التي تزوجت لاحقا الصحافي الإسرائيلي المميز، جدعون ليفي)، وحضر اللقاء شاعر فلسطين محمود درويش، ومحمود اللبدي، واستقدم أفنيري، (بموافقة أبو عمار، وبعد انتهاء المقابلة الصحافية)، طاقم تلفزيون ألماني لتصوير اللقاء.
من بين ما أذكره في ذلك اللقاء الأول من نوعه، حِرْص أفنيري وسراغوستي من إكثار التقاط الصور لأبو عمار وهو يحتضن ويداعب ابنتي الصغرى، منى، وهي دون الثالثة من العمر. وعندما سألت أفنيري عن السر في ذلك، قال إنه يريد مجابهة العنصريين الاسرائيليين، وحكومة مناحيم بيغن، بعرض صورة أبو عمار الإنسان اللطيف العادي الذي يحب الأطفال ويقدّس الحياة، مقابل الصورة التي تنشرها له وسائل الإعلام الإسرائيلي وتظهره كمجرم وقاتل ورجل دموي. انتهت المقابلة في البيت، ورافقت أفنيري ومن معه لمكان اعتقال الطيار الاسرائيلي الاسير أهارون أحيعاز ليروا ويسجلوا كيفية معاملة الفلسطينيين للاسير الاسرائيلي، وحمّلت افنيري رسالة ودعوة لزوجة احيعاز لزيارته في بيروت. كل من يسجلون ويكتبون عن أوري افنيري، الصحافي والكاتب والسياسي وداعية السلام والمناصر بلا تردد للحقوق الفلسطينية، يعتبرون لحظة لقائه الأول مع عرفات اثناء القتال والحصار، واحدة من ابرز العلامات الفارقة في حياته الحافلة جدا. التقيته بعدها عشرات المرات في مدن مختلفة. لكن ما لا أنساه، كان في ندوة مشتركة لنا في امستردام، يوم 16/9/1982، حيث وصلتها من روما، بعد ان رافقت أبو عمار في زيارة للفاتيكان، وبينما كنا على المنصة، بدأت تصلنا أنباء مجزرة صبرا وشاتيلا المفجعة، ولم يتمالك أوري افنيري نفسه، ورأيت حزنا في عينيه لم أشهده من قبل، وغصة في قلبه، وحشرجة ألم في صوته. عدته في المستشفى يوم الخميس الماضي، لكنه كان في غيبوبة لم يفِق منها، حيث توفي يوم الاثنين، قبل عشرين يوما من بلوغه الخامسة والتسعين. وداعا أوري، وداعا يا صديق الشعب الفلسطيني.
كاتب فلسطيني
عماد شقور
“أنت لا تستطيع أن تحدثني عن الإرهاب، فأنا كنت إرهابياً” واحدة من أقوال افنيري. تعبر عن جرأته في الوقوف سدا منيعا ضد كل محاولات تشويه النضال الفلسطيني. هو انضم الى منظمة الإرغون الصهيونية الإرهابية و لكنه كان طفلا صغيرا و عندما وضعت حرب 48 أوزارها بدأ رحلة البحث عن حقيقة ذاك الآخر الذي يسمى فلسطيني فكان خير صديق و منتصر لأعدل قضايا الأرض. نسأل الله تعالى أن يرحمه و يسكنه فسيح جناته.