حوار تخيلي بين صوتين لعقل واحد

صوت 1: لا ينبغي اتهام المشاعر الوطنية بالزيف، حتى وإن كانت أسباب تأججها زائفة.
صوت 2: عندما توظف سلطوية حاكمة مفردات كإنقاذ الوطن وحماية الدولة وأمنها القومي ومنع انهيار المجتمع والقضاء على الإرهاب لتبرير جرائمها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان والحريات وعصفها بسيادة القانون وإسكاتها لكل الأصوات والآراء عدا الصوت والرأي الرسميين، فالسلطوية هنا تتلاعب بالفكرة الوطنية وتصنع منها سياجا لا يحمي غير استمرارها هي. أليس ذلك بوطنية زائفة؟
صوت 1: حتى عندما تتلاعب سلطويات حاكمة بالفكرة الوطنية بغية تبرير جرائمها، فمفردات تلاعبها تخاطب شيئا حقيقيا في ضمائر وعقول الناس يرتبط بالانتماء للمكان الذي هو الوطن، والتعلق بالهوية الجمعية التي تربطهم ببعضهم البعض التي هي الهوية الوطنية، واستدعاء الكثير من الخبرات المتوارثة ومنقولات الماضي البعيد والقريب وخطوط إدراكها وقراءتها التي هي التاريخ الوطني واللغة والثقافة السائدتين.
هذا الشيء الحقيقي يتجاوز ألعاب السلطوية، ويستطيع أن يحمل الناس بعد فترات قد تقصر أو تطول على رفض توظيف الفكرة الوطنية لتبرير الجرائم
والانتهاكات أو لتمرير القمع وإلغاء حق الناس في الاختيار الحر. هذا الشيء الحقيقي، هذا الانتماء الوطني، يظل قابلا للثورة على السلطوية ولطلب الانعتاق منها ومحاسبة المتورطين في جرائمها وانتهاكاتها.
صوت 2: تاريخيا، لم ينتج التعويل على تحرير الفكرة الوطنية من تلاعب سلطوية حاكمة بمقولاتها ومفرداتها سوى الوقوع في براثن سلطوية بديلة. فالفكرة الوطنية هي في الجوهر نظام للتصنيف وللدمج أو الإقصاء؛ نحن وهم، أهل البلاد والغرباء، المواطنون والأجانب، المواطنون الشرفاء وأهل الشر، الأغلبية والأقلية. حين تستحوذ الفكرة الوطنية بمفردها على ضمائر وعقول الناس وعلى الفضاء العام وتغيب رحابة الفكرة الديمقراطية المستندة إلى حقوق الإنسان الفرد وحرياته وإلى المساواة الكاملة ومناهضة التمييز، عندها يتحول الناس إلى «جماهير» ويصير العمل الشعبي على إزاحة السلطوية الحاكمة ومعارضة وطنيتها الزائفة بعد اتضاح إخفاقها في تحسين أوضاع «البلاد وأهلها» مرتهنا بالبحث عن سلطوية بديلة تدعي النقاء الوطني وهي لا تقل زيفا عن سابقتها.
بل أن هيمنة الفكرة الوطنية على ضمائر وعقول الناس وعلى الفضاء العام تدفع إلى الواجهة بنخب نظامية (عسكرية وأمنية) ومدنية تزدري الديمقراطية
وممارستها وإن رفعت أحيانا شعاراتها، ترفض تنوع الآراء وتتقلب بين مكارثيات احتكار الحقيقة المطلقة والرأي الواحد، وتختزل دور «الجماهير» إما في تأييد السلطوية الحاكمة أو في استبدالها بسلطوية جديدة. وليست الحالة المصرية، والتي نناقشها هنا وإن لم نشر إليها صراحة، باستثناء على ذلك منذ خمسينيات القرن العشرين ومنذ شرعنا مواطنا ومجتمعا ودولة في التقلب بين المكارثيات والسلطويات.
صوت 1: أشعر أنك أنت الذي تختزل دور الجماهير، وترفض الاعتراف بحقيقة سطوة المشاعر الوطنية وقدرتها على تعبئة الناس ودفعهم إلى المطالبة بالتغيير.
أدرك جيدا أن النقاش المحلي في مصر بشأن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع السعودية وإقرار سيادة الأخيرة على جزيرتي تيران وصنافير غابت عنه عناصر المعرفة الموضوعية والعقلانية. غير أن المشاعر الوطنية التي أججت بفعل ما فسر من قبل قطاعات شعبية كثيرة «كبيع لأرض مصرية نظير أموال سعودية»، وهو تفسير ليس من الموضوعية أو العقلانية في شيء، دفعت الناس إلى الخروج إلى الشارع والتعبير العلني عن معارضتهم للسلطوية الحاكمة وتحدي قوانينها القمعية التي أرادت تهجير المواطن بعيدا عن الاهتمام العام وإسكات صوته الحر وإلزامه بالصوت والرأي الرسميين.
منذ صيف 2013، لم يعلن الناس عن رفض السلطوية الحاكمة بمثل الكثافة العددية التي تحققت في تظاهرات جمعة الأرض. منذ صيف 2013، لم يخرج الناس إلى الشارع بكثافة عددية مشابهة للمطالبة بإيقاف جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان والحريات، أو لطلب محاسبة المتورطين وتطبيق منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية، أو للضغط للانعتاق من السلطوية الحاكمة والعودة إلى مسار تحول ديمقراطي. الأرض هي التي أخرجتهم، المشاعر الوطنية هي التي حركتهم، الكبرياء الوطني الذي يحمله شعار «الأرض عرض» هو الذي حملهم على معارضة الحكم.
صوت 2: الأرض عرض! يا لها من مفردات بدائية. يا لها من نظرة بدائية تدعي الدفاع عن الأرض العرض، وتتجاهل حقوق وحريات البشر الذين يعيشون على هذه الأرض (بالمعني المجازي، فتيران وصنافير جزر غير مأهولة). أدرك جيدا أن سلب حرية آلاف المواطنات والمواطنين، وجرائم القتل خارج القانون والاختفاء القسري والتعذيب، وتهجير الناس بعيدا عن الفضاء العام، وغيرها من الانتهاكات التي تراكمت منذ صيف 2013 على نحو غير مسبوق لم تدفع كثيرين بيننا إلى التعبير العلني عن معارضة السلطوية الحاكمة والمطالبة باستعادة مصر مسار تحول ديمقراطي حقيقي. أدرك أن المشاعر الوطنية، وهي وإن أججت بعد اتفاق ترسيم الحدود دون معرفة موضوعية إلا أنها ارتبطت بعامل موضوعي هو غياب الشفافية عن تعامل الحكم مع الأمر برمته والاستعلاء الكارثي على حق المواطن في معرفة ما يدور في البلاد، عبئت الناس بسرعة بالغة وأخرجتهم إلى الشارع دفاعا عن ما صنفوه كحق واجب الحماية، الأرض عرض.
غير أن الإشكالية الحقيقية هنا، وبعيدا عن كارثة تغييب الموضوعية والعقلانية، تتمثل في كون تأجج المشاعر الوطنية ليس له إلا أن يصنع بيئة مجتمعية يريد بها البعض إزاحة السلطوية الحاكمة بسلطوية بديلة تنتصر «للأرض والعرض». وأن يصطنع فضاء عاما يغيب قضايا الديمقراطية والحقوق والحريات، ويتجاهل الإنسان في سبيل إنقاذ كبرياء وطني لم تجرحه غير غطرسة السلطوية الحاكمة التي لم تشرك الرأي العام في قرار ترسيم الحدود البحرية مع السعودية. وأن يخلق معارضات تقابل مكارثية الحكم الذي يدعي احتكار الحقيقة المطلقة بمكارثية بديلة تقصي أيضا من يرون أن الانتصار لحقوق الإنسان وحرياته أولوية، وأن الفكرة الديمقراطية تسبق الفكرة الوطنية وإن لم تعجب الجماهير.

٭ كاتب من مصر

عمرو حمزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ما دامت الديموقراطية ستعيد الإخوان للحكم فمرحى بطغيان العسكر
    هذا هو شعار من يدعي الوطنية الليبرالية بمصر الآن
    وكأن الإخوان ليسوا وطنيين مصريين
    ولا حول ولا قوة الا بالله

اشترك في قائمتنا البريدية