حول بيبان أبي الخصيب: طالب عبد العزيز ينهمر كنص حزين من غصن يابس

النهر ينجب الكثير من الحكايات. كما يقول طالب عبد العزيز. وهذه الحكايات الراسبة في أعماق روحه يستدعيها لتنسرد بنبرة استذكارية حميمة في كتابه (قبل خراب البصرة – كتاب الماء والنخل). والأجمل أنه ينصّصها في دفقات لغوية تأخذ إيقاعها الاستراوحي من (البيبان). وهي صيغة خصيبية تعادل شكل (الأبواب) وتشير إلى الكثرة لجمع مفردة (باب) التي تعني الأرض المحصورة بين نهرين. أما البيبان فلها مواصفات قياسية ومزاجية ومكانية كباب السرور، وباب الديرة، وباب الهوى، وباب خلف، وباب رمانة. إذ يكفي أن تُلصق أي كلمة إلى جانب مفردة باب ليتولّد معنى من معاني الحياة. بمعنى أن النص يكتسب تضاريس ملفوظاته من تضاريس المكان.
وكما تنزرع على جنبات الباب الأشجار بكل أنواعها تحفّ به الحكايات، التي يؤدي فروض سردها طالب بنفسه، فيما تلوح سيرة مكانية. مكتوبة بروح ووعي ومزاج كائن نام في الظل. فهو صاحب الحكاية الذي (صعد المدُّ نهر روحه). ففي كل باب له حكاية مزدحمة بالشخصيات المؤمكنة. التي تنغرس بعمق في المكان بما هو الحاوي الأول للكائن، حسب المفهوم الأرسطي. وعلى هذا الأساس تم تبويب الكتاب/السيرة. فهناك مماهاة رهيفة ما بين أبواب النص وبيبان الأرض. حيث يعمل فضاء أبي الخصيب كثيمة قارة في بنية النص، تتحكم في تراكيبه اللفظية والدلالية.
إن كثرة الطرق على المكان ليست سوى محاولة لاستفزاز ما انحفر في الذهن. بمعنى الإمتثال لممليات الذاكرة. ففي (باب النداف) يستدعي (أبو غلوم النداف) الذي كان يترقب ظهوره كما أوصاه والده بين (فروج وبيبان النخل). ليمكث في دارة الخطار أسبوعاً أو أسبوعين ليحول أفرشتهم الواطئة التي تختزن بقع البول والحليب إلى أفرشة وثيرة. ويوشيها بكلمات ورسوم بديعة. وعلى إيقاع حركة الأصابع النحاسية لذلك الشيخ الستيني كان الطفل يلقم القيثارة السومرية المزيد من القطن، فيبتهج لمنظر نثار القطن المتطاير في الهواء المتساقط على شعره كندف الثلج.
وعند مدخل (باب السباخ) سباخ البهادرية، يستعيد بمجس ظاهراتي ذكرى حلم أخضر، أو ما يسميه بالسعادة البلهاء، سعادة أولاد حفاة أصابتهم بهجة الانعتاق من الماء والنخل. حيث يمرحون بدشاديشهم الطائرة في الريح، مطوقين بأغصان العنب من كل مكان. وسط جبال من الحناء واليقطين والقرع. بدون أن تعترضهم نخلة أو شجرة. يتحركون بحرية مشروطة تحت إمرة آبائهم للغرس والسقي وحمل الزنابيل وجمع الروث. لتتعبأ حواسهم بالنخل وهو يخضر، إلى أن يعودوا إلى بيوتهم الطينية.
تلك هي السمة الشاعرية في مقاربته لمظاهر أبي الخصيب الغائرة في الذاكرة. فما أن يغلق باب الخضرة حتى يفتح باباً من أبواب الماء (باب سليمان). حيث النهر الذي كان ممراً للأبلام المحملة بالفواكه والخضار والورود والتمر. وحيث تحتشد شخصيات ذات صيت تاريخي وفني وأدبي كسليمان بن جامع، كبير قادة علي بن محمد، وبدر شاكر السياب الذي أكمل دراسته الإبتدائية عند هذا الباب، وشيخ المعلمين ياسين صالح العبود، ومحمد ناصر وزير ثقافة عبدالكريم قاسم، وسعدي يوسف. وحميد الهارون الذي ذبح أوتار عوده بالسكين، وغيرهم من الأسماء التي بعثرت حكاياتها على ضغاف النهر وشطوطه.
ومن مطل (باب الكويت .. باب البصرة) الجغرافي تندلق الإشارات السيكولوجية لأبي الخصيب. حيث ينصلب الطفل الذي يصطحبه أخوه إلى مقهى عبدالله المعيوف أمام مشاهد مأهولة بشحنة شعرية فائضة، ليستمتع بما يأتيه من وراء الحدود. من الكويت. من خلال شاشة بيضاء بضوء سحري تبث صوراً ملائكية للمذيعين أحمد عبدالعال وأمينة الشراح وهدى وندى المهتدي. كما تنسكب في أذنيه الطريتين أغاني شادي الخليج وعبدالحميد السيد وسعود الراشد وفرقة عودة المهنا وعوض الدوخي ومحمود الكويتي.
ومن خلال مشاهد مسلسل (أبو جسوم) يكتشف الطفل طبيعة الصلة بين المكان الكويتي والفضاء البصراوي، فالأثاث والأدوات الإستعمالية وشكل المعمار يحيل إلى سكة بيتهم بيت أحمد العبدالعزيز. أما مفردات الحياة فتتشابه حد التطابق. وما عائلة بوجسوم إلا صورة للعوائل البصراوية التي هاجرت إلى الكويت بسبب مضايقات الأنطمة الجمهورية. إذ لم تفلح قناة البصرة البعثية ذات البث الرديء المفتــعل المتكلف، أن تخترق وعيه ووجدانه، حسب قوله.
لأسباب كثيرة ترك أبناء أبي الخصيب بيبان بيوتهم مفتوحهم على الماء وسافروا. فقد انفتح (باب السفر) لقراءة الوجه الآخر من الدنيا واستكمال الحكاية. ولذات الأسباب حمل طالب حقائبه واستقل الطائرة ليرحل بعيداً عن محنة الوطن فيما كان يحدق في تفاصيل الميزوبوتيميا على راحة امرأة جاءت من بحة في نداء. ولهول صدمة الإغتراب ووحشة البعد عن بيبان أبي الخصيب، انحشر في قلم، وصار ينهمر كنص حزين من غصن يابس. ليخاطب حبيبته التي التقاها مرة أخرى في (باب شمال .. وجنوب امرأة) فيما كانت الأساطيل عام 2003م ترسو على مبعدة باب أو بابين من قريته.
هكذا صارت سيرته تنكتب في بيبان لغوية بمرجعية مكانية، لينفصم في (باب الخصيبي) على حافة الفتن الطائفية التي وصلت إلى بصرته. ولأنه لم يتوقع أن تنهش الفتنة أوصال ناسه توجه إلى المرآة وغرس وجهه فيها يسائلها عن ملامح هويته. ليرتد إلى مدينته متسائلاً (إيه أيتها المدينة الفقيرة، يا قائمة الدهر، ويا فارعة التواريخ .. من شق جداولك هذه كلها؟). وصار يسائل مدينته التي أحبها ويكاد أن يكرهها.
لم يعد يصدق أن أهله الذين تشرق على رؤوسهم شمس واحدة قد قرروا الإحتراب. وأن فقراء أبي الخصيب قد رحلوا بالفعل إلى الموصل من مدينة أجدادهم. وأن مفهوم المكان المطلق المتمثل في أبي الخصيب لم يعد كذلك. وأن غبش رومانسيته قد تبدد. فهو ليس المحل الملائم للإستقرار والبناء، إنما مجرد محطة لأماكن أخرى. وبجسده المنهك وروحه المتعبة أسند ظهره إلى حائط بيته الطيني وصار يتمتم (هذه المدينة تطرد أبناءها. ومن أكبر مخازيها أن يغادرها أهلوها، حتى ولو كانوا في طريقهم إلى الجنة … لا تأمر قدمك بالسير إلى بلد ليس فيها نخل).
عند هذا المحطة انفصمت مشاعره فلم يعد يعرف إن كان ما يسرده كتاباً للفرح أو الحزن. وهذا هو ما أدخله (باب النعاج) ليلتقي بأهلها، أهل البر والبحر، الذين تشبه وجوههم أعناق اليقطين الطرية، ويظللهم ســـقف مسجد فقير واحد. وبعد نزهــــة تأملية يغادره إلى (باب السروجي) ليريح جسده عند إحدى نخيلات قصر يوسف باشا القرطاس. ويستولد قصيدته التي أرسلها لمجلة أقلام. وكأنه يقـــول بأن مكانه يخلو من أي فراغ وأنه بقدر ما يشعر بالمديونية لمكانه سيعلقه كتعويذة نصّية على صدره.
بيبان أبي الخصيب إذاً، ليست هي المحرك لنصه وحسب بل المبرر لوجوده ككائن. إذ لم يكن بمقدور طالب عبدالعزيز الشاعر أن يستجمع شاعرية إحساسه بالوجود إلا بالتماس مع وصايا ومتعلقات أسلافه. فهو كائن أرضي، يقتفي أثر من يحبهم في أعطاف الأرض. ويشم رائحتهم في جذوع النخيل، كما وصف إحساس الفقد بأبيه وأخيه في (باب عبدالعزيز). فهو مشدود من رسغه. لا يختلف عن اللوبياء التي تلتف على الجذوع. وله وجه من لبن وقمح. وبه أسى نخلة نائية.
لم تكن كل تلك المشاهد المكانية الضاجة بالحياة لسيرة الخصيبي إلا مرايا عاكسة محتشدة بصور الحيرة والإنفصام على حافة الثنائيات. بما تختزنه من هوية جمعية يُراد له أن تختبر في مدار مراوحات فردية. وبالتالي فهي مقدمة لظهور الكائن الذي ينصّص ما شاهده وأحسه. وهكذا انفتح (باب الشاعر) للطفل الذي كان يقرأ الكتب والحياة مستلقياً إلى تفاجأ بتبدُّلها السريع أمام ناظريه. مزيج من الأفكار المدفونة في الكتب والمرتسمة على وجوه الناس، وخلائط من البشر في الشارع والمقهى ودور النشر والمثقفين. أدخلته في متاهة الزمن.
لم تكن مفاتيح بيبان الشعر إلا مفاتيح بيبان أبي الخصيب. كما كشف عن ذلك في (باب ابتكار الفصول). حيث كان يستشير من يسميهم بكبار زارعي الكلمات في الأنهار. ليرى إن كان ما خطه يصلح لارتقاء نخلة لديهم. فالأوراق التي ينزل عليها الكلمات تتحول إلى بيبان، كما أبان عن ذلك في باب (حين متنا) حيث يتحدث عن طفل غادر طفولته، ويكتب سيرة شاعر طفل كبر خصره ولم يعد بمقدور الأغصان أن تطوقه في المكان الذي تجاوز فكرة المحوى الإجتماعي ليتحول في داخله إلى ظاهرة إنسانية هي بمثابة الطاقة المحركة له.
لقد كتب طالب عبدالعزيز سيرة الماء والنخل ليعيد تشييد أركان بئره الأولى في داخله. وعلى هذا الأساس ابتنى تلك المواءمة ما بين الفضاءات اللفظية والواقعية والدلالية. ليفتح بعض بيبان الخصيبي ويُبقي على بعضها شبه موارب كخزائن للمعنى المؤجل. حيث كان الراوي يمرض أحياناً ويتعب أحياناً أخرى وهو ينسج نصه. إلا أن الحزن لا يفارقه.
وكلما شعر بالاغتراب أو انخفض منسوب إحساسه بآدميته وشاعريته ارتد إلى بيبانه. إلى النهر الذي تحف به الحكايات. إلى دفتر الأرض ومعجم الناس. يقيناً منه بأن الــــتراب هو أبجدية الحياة. وأن الماء سارد كبير لسيرة الأضرحة والنصب والمعابد والمنازل الطينية التي تحتشد في متحف الحياة.

٭ كاتب سعودي

محمد العباس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فهد مبارك:

    السلام عليكم اخواني انا من الكويت حاب اتوصل معا الاخ طالب عبدالعزيز الكاتب كيف الطريقة بخصوصً موضوع مهم هل لدية ايميل او رقم هاتف بنتظار ردكم الكريم

اشترك في قائمتنا البريدية