من حكايات الاستبداد… دولة شتازي!

هي جدة صديقة لي، وحكايتها سردتها لي في لقاء حدث منذ سنوات.
قالت، كنت مع والديي من سكان ما أصبح مع نهاية الحرب العالمية الثانية القسم الشرقي من ألمانيا. لم تكن معاناتنا كأسرة من الدمار ومن شظف العيش بمختلفة عن غيرنا، ولم يكن لدينا ما يدفعنا إلى الارتحال بعيدا عن قريتنا الصغيرة في منطقة فوربومرن (هي اليوم جزء من ولاية مكلنبورج ـ فوربومرن). لم نتعرض لعنف الجيش الأحمر (الجيش السوفييتي) في الأشهر الأخيرة للحرب، ولم نشعر أن الأوضاع المعيشية في القسم الغربي تحسنت بسرعة تدعونا إلى طرق أبوابه. بل كان أبي من المتحمسين للإيديولوجية الماركسية ـ اللينينية التي تأسست وفقا لها جمهورية ألمانيا الديمقراطية في القسم الشرقي (في 1949)، وجلبت له عضوية الحزب الشيوعي الحاكم وظيفة إدارية في مؤسسة عامة.
روت، تدريجيا تبدلت نظرة والدي للشيوعيين الحاكمين. لم يعد تعقب أصحاب الآراء الأخرى وقمع المعارضين خافيا، ولم يعد هو من القادرين على التكيف مع «دولة شتازي» (نسبة إلى مسمى جهاز الاستخبارات وأمن الدولة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية). كان جهره بانتقاد السيطرة الأمنية على المؤسسة العامة التي عمل بها كفيلا بتعقبه، ورفضه كمسؤول إداري التورط في التنصت على العمال (كانت هذه ممارسة اعتيادية في مؤسسات دولة شتازي) سببا في إحالته إلى وظيفة ذات دخل شديد المحدودية.
أكملت، ولأن تعقب أبي من قبل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لم يتوقف عند حدود مكان العمل بل امتد إلى الفضاء الاجتماعي لأسرتنا التي ابتعد عنها الرفاق والأصدقاء ولم يبتعد عن أمي التي كانت مزارعة بأجر في تعاونية حكومية تقرر الارتحال غربا. في نهاية الخمسينيات، اجتهد الأب أكثر من مرة للحصول على تصريح رسمي للمغادرة يشمله وأمي وأخي الوحيد وأنا. غير أن السلطات المعنية رفضت متذرعة بعدم وجود أقارب لنا في جمهورية ألمانيا الاتحادية (القسم الغربي)، ولم تفلح اتصالات صديق قديم لأبي كان قد أصبح رجلا نافذا في الحزب الشيوعي الحاكم في إحداث التغيير. وعندما شرع الشيوعيون في بناء السور الفاصل بيننا وبين الغرب وتوالى تساقط ضحايا محاولات «الهروب غير الشرعي» (قتلا برصاص قوات أمن دولة شتازي)، طرق أبي الباب الأخير الذي كان متاحا آنذاك لتمكيننا من الارتحال. فاستخدم كل مدخراتنا ووساطة صديقه النافذ لرشوة مسؤول أمني كبير عرف عنه استخراج تصاريح المغادرة نظير مقابل مالي، ووعدنا بسرعة حسم الأمر.
تبدل صوتها الرخيم إلى دراماتيكية متلاهثة، بعد أسابيع قليلة أبلغ الصديق أبي أن المسؤول المرتشي تمكن من تأمين خروج أمي وأخي وخروجي غير أنه عاجز عن ضمان «خروج آمن» له هو بسبب خطورة وضعه السياسي. وعندما سأل أبي عن معنى ذلك، أخبر بكون معارضته للسيطرة الأمنية على المؤسسة العامة التي يعمل بها رتبت تصنيفه «كعدو للدولة» و«مخرب محتمل» وهو ما يستتبع مراقبته الدائمة ويجعل من مغادرته لجمهورية ألمانيا الديمقراطية عملا انتحاريا. أبلغ الصديق أبي أيضا بضرورة أن تقرر أسرتنا بسرعة ما إذا كانت تريد الارتحال من غيره لأن «المسؤول» لا يستطيع الانتظار طويلا.
على الرغم من رفض أمي، حسم أبي الأمر بمغادرتنا لكي تبدأ «حياتنا الجديدة» وبانتظاره هو إلى أن تسنح له فرصة مأمونة العواقب أو إلى أن يسقط حكم الشيوعيين في القسم الشرقي الذي ظنه (في نهاية خمسينيات القرن العشرين) قريبا للغاية. ووفقا لتعليمات «المسؤول» المنقولة لأبي عبر صديقه النافذ ولكي لا نثير شكوك السلطات حين نغادر ثلاثتنا أمي وأخي وأنا إلى الغرب دون أبي، أعلن أبي وأمي انتهاء علاقتهما الزوجية وسجلا انفصالهما في «المكتب الحكومي للأحوال الشخصية» الذي كانت قريتنا تابعة له. بعد أيام قليلة ودعنا أبي تاركا المسكن المشترك، وبعد أيام أقل حصل ثلاثتنا على تصريح رسمي بالمغادرة إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية وتحركنا إلى نقطة حدودية عبرناها دون صعوبة ومنها توجهنا إلى مدينة ميونيخ في الجنوب الغربي التي لم يصلها أبي أبدا ولم تغادرها أمي إلى أن قبضها الموت ومازلنا أخي وأنا نعيش بها. منذ المساء الذي ودعنا فيه أبي، لم نلتقيه بعدها أبدا. فقد باءت كافة محاولاته للحاق «الآمن» بنا في الغرب بالفشل. وعندما تواصل غياب الفرصة «مأمونة العواقب» للارتحال، خاطر أبي بالهروب غير الشرعي وقتل برصاص أمن «دولة شتازي» بالقرب من السور الفاصل بين الشرق والغرب في إحدى مناطق مدينة برلين الحدودية.
أنهت حكايتها بدموع قليلة حملت حزنا عظيما، لم تسمح سلطات جمهورية ألمانيا الديمقراطية لنا بمعرفة المكان الذي دفن به والدي ولا بزيارة قبره. رحلت أمي عن عالمنا قبل سقوط «دولة شتازي» في 1989 ولم تستطع أبدا الوقوف على قبر والدي، وتمكنت مع أخي من معرفة مكان القبر وزيارته في بداية التسعينيات بعد السقوط وتوحد الألمانيتين. حين ارتحلنا إلى الغرب كنت في عامي الخامس عشر، وحين عدت إلى الشرق لزيارة أبي في قبره كنت قد اقتربت من عامي الخمسين.
تذكرت حكاية جدة صديقتي في معرض متابعتي للتعرجات الكثيرة في مسارات الحياة الشخصية والأسرية والمهنية التي تفرضها السلطوية المصرية على «المحظوظين» من معارضيها منذ صيف 2013. غادروا إلى منافي متنوعة، بعضها لا يخلو من قسوة مجتمعية أو سياسية. لحقت ببعضهم أسرهم، ومازالت أسر أخرى تنتظر أو لا ترغب في ترك البلاد. وجد بعضهم مصادر مناسبة للعمل والارتزاق، وبعضهم لم يجد بعد ما يوفر له سبل الحياة الهادئة. يعصف الجزع ببعضهم حنينا إلى الوقوف على قبور الأحبة واشتياقا إلى بيوت الأهل ودفئها، وبعضهم حسم أمره وألزم نفسه قطيعة مشاعرية وذهنية إلى حين. قاسية وتراجيدية تلك التعرجات التي ما عاد الاصطدام بحكاياتها بين المصريات والمصريين في المنافي غريبا أو نادرا. على الرغم من ذلك، يظل أصحابها بمعايير الفترة الرديئة الحالية من المحظوظين. فهن وهم لم يتعرضوا لآلة قتل «دولة شتازي» المصرية، ونجوا من آلة سلب الحرية والإلقاء في غياهب السجون حيث التعذيب وامتهان الكرامة الإنسانية والمعاملة غير اللائقة وجرائم أخرى، وباتوا على مسافة فاصلة كافية للابتعاد عن آلة تغييب العقل وتزييف الوعي وهيستيريا الزعيم الأوحد.

٭ كاتب من مصر

 من حكايات الاستبداد… دولة شتازي!

عمرو حمزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ألمانيا الآن دولة ديموقراطية تدافع عن حقوق الإنسان لكنها تستقبل أعداء الديموقراطية و منتهكي حقوق الإنسان وأقصد هنا السيسي
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول ahmed al kordy -kuwait:

    كل ديكتاتور يظن انه اشطر من غيره وانه سيسيطر بشطارته على البلاد والعباد الى ان يشعر انه لم يسيطر كما يريد وبدلا من الانسحاب يشدد قبضته وهكذا يشدد ويشدد الى ان ينتهي به المصير كما انتهى غيره من الديكتاتوريين

  3. يقول ALI EHADJ ALGERIE:

    شــكرا استاذ حمزاوي ، أتحفتنا بشيء يستحق كل تنويه وقدرة فائقة علي نقل الأحداث في مضمونها التاريخي مع الربط فيما مضي وفيما يحدث اليوم، وهي الكتابة المفيدة لشعوبنا العربية التي لازالت تعيش ضنك الحياة .

اشترك في قائمتنا البريدية