المستبدّ الجاهل: هديّة أمريكا إلى العلوم السياسية!

مثل طفل حائر خائف ماض إلى مصيره سيرا إلى الخلف، يستدبر غده بدل أن يستقبله، فعلت الديمقراطية الأمريكية (ثانية) بنفسها ما يفعل العدو بعدوه، فأسلمت أمرها إلى المستبد. لا «المستبد العادل» (نموذج التاريخ الشرقي القديم) بل المستبد الجاهل! ولا «المستبد المستنير» (نموذج التاريخ الأوروبي الحديث) بل المستبد المستدير بظهره لأبسط مبادئ العقل وأصول اللياقة. مستبد الشر المستطير الذي لن يكون ثمة هذه المرة (على عكس ولايته الأولى) ما يكبح جماحه ويخفف من غلوائه. فقد تخلص ترامب من جميع المساعدين والموظفين القادمين من صلب المؤسسات واستعاض عنهم بمن يضارعونه شذوذا ذهنيا وغرائبيّة سياسية.
والملمح الذي عادة ما يغيب عن النظر العام هو أن الشخصية الاستبدادية، بأعراضها ورذائلها المرضيّة، ليست اختصاصا حصريا للأنظمة غير الديمقراطية. فقد كتبنا هنا قبل سنوات أن ثمة بين الساسة الغربيين من هو مصاب بكل أمراض الشخصية الاستبدادية، ولكن ما يمنعه من تفتيق مواهبه والانسياق لشيطان نزواته هو أن سوء الحظ أوقعه في بلاد رسخت فيها الديمقراطية الليبرالية فلم تعد تطيق أن تسلم أمرها إلا لسلطان القانون. وقلنا آنذاك إنه لو أتيح لبرسلكوني أو ساركوزي، مثلا، أن يحكما دولة إفريقية أو آسيوية لنافسا بوكاسا في غرائب التنكيل والتعذيب ولكان عدد ضحاياهما بعشرات الألوف.
ولكن هذا كله كان قبل أن تتحفنا الديمقراطية الأمريكية العليلة المقعدة المشرفة على الهلاك بشخصية، كاريكاتورية ودكتاتورية في الوقت ذاته، اسمها دونالد ترامب. إذ ما أن هاجر هذا المهرّج الرديء من تلفزيون الواقع (الذي كان يرقص فيه بثياب صفر مع دجاجات صفر!) إلى دنيا التنافس على حكم أكبر قوة عظمى في التاريخ، بأسا عسكريا وثراء ماديا، حتى اكتشفنا أنه أيّا كانت رحابة تصوراتنا وتوقعاتنا وسعة خيالنا، نحن البشر، فإن الواقع أوسع منا خيالا، وأمضى مكرا، بما لا يقاس.

الاستبدادية ليست بعرض طارئ في الرجل، بل إنها طبع راسخ. إذ إن أبا جهل الأمريكي ثابت ومقيم في ضلاله القديم

ولم يعد في الوسع إحصاء الأقوال التي عبر فيها ترامب عن إعجابه بالطغاة من أمثال الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ والكوري الشمالي كيم جونغ أون، أو عن عدم ممانعته في قتل الصحافيين، أو توعده بإغلاق بعض قنوات التلفزة، أو تهديده بالانتقام من جميع أهل الإدارة والأمن والقضاء الذين لم يؤيدوه في زعمه الفوز بانتخابات 2020 أو الذين حققوا في قضايا الفساد الكثيرة المرفوعة ضده والتي أدت حتى الآن إلى إدانته بأربع وثلاثين تهمة جنائية، أو تحسره على أنه عديم الحظ مقارنة بهتلر (!) الذي كان له «مساعدون منضبطون متفانون في خدمته» أو مناشدته المتدينين المسيحيين أن يبذلوا جهدا ويقبلوا على مراكز الاقتراع ليصوتوا له، واعدا إياهم أن هذه ستكون المرة الأخيرة، ولن يكون عليهم أن يتجشموا عناء التصويت مجددا!
لكن حتى قبل أن يأخذ ترامب في إطلاق هذا السيل العرِم من الأقوال التبريرية للاستبداد، تنبأ المفكر السياسي اليميني (والعراب الأيديولوجي لجورج بوش) روبرت كيغان بأن الانتخابات ستسفر عن دكتاتورية ترامبية مكتملة المعالم، حيث كتب في نوفمبر 2023 أن الطريق الأمريكية إلى الدكتاتورية قد صارت سالكة لأن ترامب هو المستفيد الوحيد من اشمئزاز الجمهور من انسدادات النظام الأمريكي، ولأن الجمهور يصدق أن الحل عند ترامب. وما هو الحل؟ إنه ترامب ذاته! مجرد شخصه وحضوره كاف لطمأنتهم بأن الحال ستنصلح ومستوى المعيشة سيرتفع وأمريكا ستعود سيرتها الأولى قوية ثرية عظيمة. وتنبأ كيغان أن ترامب سيجتمع له من السلطات هذه المرة ما لم يتسن له المرة الأولى، بل وما لم يتسن لأي رئيس قبله. ثم سأل: «ما الذي يحد هذه السلطات؟ الجواب البديهي هو مؤسسات القضاء. ولكن مجرد فوز ترامب يعني تحديه لها جميعا وفضحه مدى عجزها. إذ إن المحاكم التي لم تستطع التحكم فيه لما كان مواطنا عاديا لن تستطيع بالأحرى التحكم فيه بعد أن يصير رئيسا يعين وزيرا للعدل على هواه. فلتتصوروا مدى قوة رجل يفوز بالرئاسة رغم المثول في المحاكم ورغم أحكام الإدانة»!
الحقيقة البيّنة إذن هي أن الاستبدادية ليست بعرض طارئ في الرجل، بل إنها طبع راسخ. إذ إن أبا جهل الأمريكي ثابت ومقيم في ضلاله القديم. ولكن الضلال سيتجدد، متعاليا متعاظما، بتجدُّد رئاسة ستكون نقمة على أغلب البشر، بدليل تبجّحه بأنه «بطل الرسوم الجمركية» بعد أن قضت الحكمة الترامبية بأن «الحروب التجارية أمر حسن»!

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فؤاد:

    ترامب، ذلك الرجل الذي يخلط بين السياسة والاستعراض، لا يبدو فقط رئيسًا للولايات المتحدة، بل هو نفسه حالة ثقافية تسير على قدمين. في الواقع، يمكن أن ينظر إليه كـ”أيقونة” تستحق الإعجاب والازدراء في آن واحد. فهو يملك القدرة على تحويل كل كلمة ينطق بها إلى مادة خصبة للفن، الإعلام، والإنتاج السينمائي. المواقف المثيرة للجدل، التصريحات الفاضحة، والشخصية الفائقة التناقض، كلها تتحول إلى فرص تجارية مدفوعة بالاهتمام الإعلامي، ليمثل بذلك خلاصة العصر الاستهلاكي في أبهى تجلياته،
    وليتحول كذلك من مجرد شخصية سياسية، إلى “علامة تجارية ثقافية” في حد ذاته.
    فبرامج الذكاء الاصطناعي تحبه، لأنه مادة لا تنضب من الإثارة والجدل. وكل كلمة يقولها تتحول إلى بيانات يمكن معالجتها، وتحويلها إلى محتوى جديد يتناوله الجمهور من خلال وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. يمكننا أن نراه كأداة للتفاعل المستمر في عصر رقمي يعتمد على التحفيز السريع والتفاعل اللحظي.

  2. يقول الكلام الرصاص:

    كما جاء في النص ما يلي :
    ” فلتتصوروا مدى قوة رجل يفوز بالرئاسة رغم المثول في المحاكم ورغم أحكام الإدانة»! ” ..
    يا أستاذ مالك التريكي هذه ليست منطقة (قوة) من طرف ترامب كما تصفها هنا ،
    هذه بالتأكيد مناطق (ضعف) ومناطق (فساد وانحلال) من طرف الشعب الأمريكي ،
    الشعب الذي تم شراء ضمائره صاغرا ومذعنا بالدولار الترامبي ولا شك في ذلك !!؟

  3. يقول محمد الحسنات:

    السيد مالك التريكي،، الإستبداد طبع راسخ،، أتفق معك فيه، لكن مصطلح ،، المستبد العادل
    الشرقي،، فأختلف معك أخي لسبب بسيط،، فكيف يجتمع العدل مع الإستبداد،، ؟! هي فهلوة من شيوخ الدين للسلاطين، لأن يحكموا بما فيهم من إستبداد
    شرقي راسخ .

  4. يقول S.S.Abdullah:

    بخصوص ردّة فعل (السّلبيّة أو الإيجابيّة) على وصول (دونالد ترامب) إلى رئاسة أمريكا للمرة الثانية بنجاح (ساحق)، عكس توقعات (غالبية) أهل الثقافة (الأوروبية) للمرة الثانية،

    التونسي (مالك التريكي) لخّص زاوية رؤيته تحت عنوان (المستبدّ الجاهل: هديّة أمريكا إلى العلوم السياسية!) https://www.alquds.co.uk/?p=3420499

    وهذه الزاوية/العنوان، أثارت عندي، الأسئلة التالية:

    هل لغة الدولة (القانون) من أجل التنظيم، أم من أجل تكوين (الإيرادات)، لتغطية حاجة ميزانية أي دولة، وهل الثقافة إذن تعني كيفية فهم أو التعامل بين الإنسان (ة) والأسرة والشركة المنتجة والموظف/المسؤول عن سوق المبادلة/البيع/الشراء للاستيراد والتصدير، من خلال ما تسمح به لغة/قوانين الدولة على أرض الواقع، أم لا؟!

    وماذا يعني أو تأثير ذلك في الإقتصاد، بعد عام 2025، تسليم (إيلون ماسك) قيادة تقييم/مراجعة/تطوير جودة وكفاءة (الميزانية) لتقليل تكاليف إدارة وحوكمة الإنتاج في (أمريكا)،

    من أجل رفع كفاءة منافسة الدولة، مع (الصين) من خلال خبرته العملية، مع أسلوب الإنتاج والتسويق والفوز داخل حتى (الصين)، أليس كذلك، أم لا؟!🤨😉
    🤑🙉🙊🙈📓🇺🇳📟✒️

  5. يقول S.S.Abdullah:

    أنا أختلف مع مدرسة حازم أبو اسماعيل أو مدرسة مروان فتّال، في التفكير،

    لأن ببساطة في لغة القرآن وإسلام الشهادتين، الهداية مثل الرزق من الله/الخالق،

    وليس بسبب جهد أو إعلان/إعلام في وسيلة إعلام أو توجيه معنوي (مُخبِر/مخابرات/مخزن/مطبخ، للطبخ)🤭🤣🫣

    وفي أي سوق، كل شيء له ثمن، لخلق الإيرادات أو الإقتصاد، فقط الشهيد، هو من عمل تجارة مع الله، في موضوع البيع والشراء أو القيمة، للعلم، أليس كذلك، أم لا؟!🤭🤣🫣

    بمعنى آخر، ليس كل عمل (حلال)، أو الرزق الذي سيأتي منه (حلال)، على أرض الواقع،

  6. يقول S.S.Abdullah:

    ومن هنا كان فكرة تطوير مشروع صالح (التايواني) إلى المنافسة من هو الأكرم، والذي يعمل على تكبير سوق (الحلال) في تايوان، من خلال دعم مفهوم مبادرة Seeking FAITH التي أطلقتها إدارة وحوكمة الجامع الكبير في تايوان، لتكوين الأسرة (الحلال)، والأكل والشرب (الحلال)، لدعم الإقتصاد في تايوان،

    لبناء صرح إسلامي يكون أساس السوق (الحلال) في أي محافظة تعطي أرض بشروط أفضل من شروط محافظ تايبيه السابق عام 2019، من أجل إعطاء أرض للإيجار لمدة 99 سنة لبناء صرح ينافس به، ما شاهده من جمال في جوامع (تركيا) داخل الإدارة والحوكمة التي هو مسؤول عنها، لإثبات ليس هناك تضييق على أي دين، من حكمة أهل (تايوان) وبها تختلف عن حكمة أهل (الصين) بشكل عملي، على أرض الواقع.

    ليكون تحويل ثقافة أكل لحم البقر (ماكدونالد غير الحلال) إلى ثقافة أكل لحم الجمل (الحلال) جملكو؟!

    لا إقتصاد منافس، بدون عقلية توفير (الكهرباء الأرخص) من أجل أي تعامل (عن بُعد OnLine) من خلال الآلة/الروبوت التي في يد أي إنسان (ة) أو الأسرة أو الشركة وبالتالي إدارة وحوكمة من خلال Saleh Halal AI لتكون الأكثر (حلال) أي بلا (ظلم) من غيرها من دول الجوار؟!🤨😉
    🤑🙈🙉🙊📓🇺🇳📟✒️

  7. يقول أسامة كلّيَّة سوزيا/ألمانيا:

    شكراً أخي مالك التريكي. وهكذا كما دوماً ثبت أن الواقع أبعد من الخيال ولا شيء جديد تحت الشمس! يمكن القول أن ترامب مستبد بميوله لكنه ليس غبياً ومهما كان جاهلاً في هذا المنحى أو ذاك، لايمكن وصفه أيضاً كذلك فهو يعرف كيف يسرق المال وكيف يسرق الأصوات الإنتخابية! كيغان معه حق. فهل يمكن إطلاق صفة “المستبد العصري” على ترامب! رغم كل مافي هذا من تناقض حيث أن العصري من المفروض أنها تعبير عن الحضارة والتطور الحضاري، أو ربما كان هذا قبل الربيع العربي وخاصة في سوريا وحرب إبادة غزة (وقبلها في جرائم الصرب على البوسنة وحرب إلإبادة في ميانمار) وكذلك حرب روسيا على أوكراتيا والحرب في السودان اليوم أو في دافور سابقاً أو في أثيوبيا والكونغو … . وبما أن التوحش أصبح في السنوات الأخيرة أحد سمات هذا الزمن فيمكن القول عندها بهذا المعنى أن ترامب هو مثال “المستبد العصري” فهو يرتدي برادء العصر ويملك مقومات الإستبداد كاملة!

اشترك في قائمتنا البريدية