بغداد ـ «القدس العربي» ـ من صفاء ذياب: في محاولة لفهم الفلسفة الألمانية، قدم المترجم المغربي حميد لشهب كتاباً مهماً في فهم العقل الجرماني لمفهوم العلمانية والمواطنة والدين وما وصلت إليه العلاقة الصراعية بين العلم والدين في المجتمعات المصنّعة ما بعد الحديثة، بعنوان (جدلية العلمنة.. العقل والدين).
وهذا الكتاب كان ثمرة المناقشة التي نظمت في بداية سنة 2004 بالأكاديمية الكاثوليكية بميونخ بين أحد أعمدة ممثلي العقل في الغرب حالياً، ويتعلق الأمر بالفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وبأحد أعمدة ممثلي الكاثوليكية الأوروبية الكاردينال الألماني جوزف راتسينغر (البابا بندكتس السادس عشر).
دار المحور الرئيس للقاء راتسنغر وهابرماس حول الأسس الفكرية لمجتمع يحصّن الكرامة الإنسانية. وجد هابرماس هذه الأسس في العقل العملي للمفكر ما بعد الميتافيزيقي العلماني، بينما وجده راتسينغر في الإنسان كمخلوق من طرف الله.
يرى هابرماس في مداخلته (الأسس القبل السياسية للدولة الديمقراطية القانونية) أن هناك سوء فهم منتشر بكثرة يؤكّد على أن «الوطنية الدستورية» لا تعني أن يتبنى المواطن مبادئ الدستور في مضمونه المجرّد فقط، بل يجب أن يفهمه ويتمثلّه من خلال مضمونه التاريخي الخاص وفي معناه التطبيقي. ويضيف هابرماس أن نظريات ما بعد الحداثة تفهم الأزمات بطريقة عقلية نقدية ليس كنتيجة استنفاد اختياري للمقدرة العقلية الموجودة في الحداثة الغربية، لكن كنتيجة منطقية لبرنامج العقلنة المجتمعية والروحية التي تحمل هدمها في ذاتها.
وفي مناقشته للوعي الديني، يؤكد هابرماس على أنه من اللازم على الوعي الديني أن ينجح في صيرورة اندماجية في المجتمع الحديث. ويعتبر كل دين في الأصل «تصوراً عن العالم» أو «فهماً عقائدياً» يُطالب بحقه في السلطة لكي يبني شكلاً من أشكال الحياة في كليته. ويشير إلى أن على الدين أن يستغني عن هذا الحق والحق في احتكار التأويل وتنظيم الحياة الشامل نظراً لشروط علمانية العلم محايدة سلطة الدولة والحرية الدينية الشاملة. ويؤكد أن حياة الجماعة الدينية انشطرت عن محيطها الاجتماعي مع التقسيم الوظيفي للأنساق الجزئية للمجتمع. ويختلف دور التابع لجماعة دينية ما عن دوره كمواطن في المجتمع.
وفي الوقت نفسه، يشير هابرماس إلى أنه لا يعني هذا التقسيم بالنسبة للمواطن الذي لا يؤمن بأي دين بأنه مطالب بكل فظاظة أن يحدد بالنقد الذاتي العلاقة بين المعتقد والعلم انطلاقاً من زاوية العلم العالمي، كما لا يتطابق التصور المحايد للعالم من طرف سلطة الدولة، التي تضمن الحرية الأخلاقية نفسها لكل مواطن، مع التعميم السياسي لمنظور علماني للعالم.
وفي الوقت نفسه، يقول هابرماس، إنه لا يحق للمواطن العلماني، طالما أنه يقدّم نفسه في دوره كمواطن، لا أن ينكر الصحة الممكنة للتصورات الدينية حول العالم ولا حرمان المواطن المؤمن من حقّه في التعبير بلغة دينية وطرح مواضيع للمناقشة عمومياً. ويمكن للثقافة العلمانية الليبرالية أن تنتظر من المواطن العلماني أن يجتهد من أجل ترجمة الدراسات الدينية المهمة إلى لغة عمومية واضحة بالنسبة للجميع.
وعلى الطرف الآخر يعرض جوزيف كاردينا راتسينغر في محاورته التي أسماها (ماذا يوحّد العالم؟ أسس الحرية الماقبل السياسية لدولة حرّة)، أسس التطور تطور من خلال عاملين أساسيين: من جهة هناك مجتمع دولي لا بدَّ للقوى السياسية والاقتصادية والثقافية من أخذه في عين الاعتبار، لأنه يمس ويدخل في كل ميادين الحياة. ومن جهة أخرى تطور إمكانيات الإنسان للفعل والهدم، التي تفرض طرح سؤال المواقبة القانونية والأخلاقية للسلطة. ويشير راتسنغر إلى أن التساؤل حول كيفية اتفاق الثقافات المختلفة التي تعيش في مجتمع ما فيما يتعلّق بالأسس الأخلاقية التي يتأسس عليها هذا المجتمع من الأهمية بمكان، وهي أسس تقود هذه الثقافات في الطريق الصحيح، في طريق العيش معاً وتأسيس شكل قانوني مشترك لنظام السلطة المشتركة التي تقودهما.
وينفي راتسينغر إمكانية تقديم العلم أي شيء مقابل تجديد الوعي الأخلاقي، الذي لا يمكن أن يُنتج عن طريق المناقشات العلمية. من جهة أخرى لا نقاش، بحسب رأيه، في كون التغيرات الأساسية في العالم وتصورات الإنسان الناتجة عن تطور المعارف العلمية قد ساهمت في القضاء على الثوابت الأخلاقية القديمة.
ويؤكد راتسينغر، بعد مناقشته لأهمية قوة القانون مقابل قوة السلطة، على أنه لا يبقى لتكوين الوعي الديمقراطي إلى التمثيل النيابي من جهة وأخذ القرارات بواجب قرار الأغلبية من جهة أخرى على الرغم من أن يكون من الممكن المطالبة لأكبر قدر من الأغلبية حسب أهمية مسألة ما. وفي الوقت نفسه يمكن للأغلبيات أن تكون عمياء أو جائرة. ويؤكد لنا التاريخ هذا الإدعاء. إذا ضغطت أغلبية كبيرة على أقلية صغيرة، كأقلية دينية أو عنصرية مثلا، عن طريق قوانين جائرة، فهل يمكن للمرء أن يتحدث عن عدالة القانون؟
وبعد مناقشات وأجوبة عن أسئلة يقترحها راتسينغر، حول العلاقة بين العلم والدين من جهة، وبين السلطة والقانون، من جهة أخرى، يخلص إلى بعض الاستنتاجات، ومن أهمها: هناك نوع من المرض في الدين، يدفع بالضرورة إلى استعمال الضوء الإلهي للعقل كهيئة مراقبة يتطهر على هذا الضوء باستمرار ويموضع نفسه في المكان المخصص له. لهذا السبب يجب على العقل كذلك أن يقاد من جديد إلى حدوده ويكون مستعداً للإنصات تجاه الوحي الديني للإنسانية. وإذا استقل العقل نهائياً ورفض هذا الإنسان، فإنه يصبح هدّاماً.
ومن أجل الإيمان بتعدد الثقافات في الوقت الحاضر، يرى راتسينغر أنه يستحسن الحديث عن العلاقة المتبادلة بين العقل والإيمان، بين العقل والدين، المطالبين بالتنظيف والتطبيب المتبادل لبعضهما البعض. ومن الأهمية بمكان توسيع هذه العلاقة الثنائية بين الدين والعقل في الغرب إلى علاقات متعددة مع ثقافات أخرى متفتحة على هذه العلاقة الثنائية بين العقل والدين، وبهذا يكون من الممكن أن يقوم نوع من الصيرورة التطهيري الكوني، ويمكن من خلاله للمعايير والقيم الغربية المعروفة من طرف الجميع أن تستمد قوة جديدة للوصول عن طريق هذا إلى قوة إنسانية جديدة يمكنها أن توحّد العالم.
من خلال هذا الكتاب يقدم الألمانيان هابرماس وراتسينغر درساً في فهم المواطنة والدين والعلمانية من دون أن يلغي أحدهما الآخر، فكل كاتب منهما يسعى لتأسيس ذاته، لكن ليس بمعزل عن الكاتب الآخر، وهذا من أهم شروط المواطنة التي تسعى إليها الدول الحديثة.
صدر الكتاب عن (جداول) للنشر والتوزيع، بيروت بـ88 صفحة من القطع المتوسط.
أفضل قراءة الكتاب على قراءة هذا المقال الغامض والمرتبك. لكن الموضوع مهم وتقديم الشكر واجب.
مقال جمیل