حلم ‘وجدة’ الأخضر لهيفاء المنصور : رحلة الى عالم المرأة السعودية المحجوب

حجم الخط
1

هذه الأسطر ليست تحليلاً سينمائياًلفيلم ‘وجدة’ بقدر ما هي محاولة للاقتراب من واقع المرأة السعودية اليوم وطرح الأسئلة عن أفق الحرية والمستقبل. ‘وجدة’الشخصية الرئيسية في الفيلم هي طفلة سعودية تشبه الكثير من الفتيات في سنها، بعينيها السوداويتين وشعرها الأسود والعباءة السوداء التي تلف جسمها، ولكن رغم هذا فهي عصفورة صغيرة تغرد خارج السرب. فتحت العباءة يظهر بنطلون الجينز الأزرقوحذاء الرياضة بخيوطه البنفسجية وفوق العباءة سترة ملونةمن دون أكمام وفوق أذنيها سماعاتالمسجل تصدح بأحدث أغاني البوب. مظهر الجسد الخارجي المختلفهوانعكاس للروح المتمردةالتي تسكنه والتي تحلم بالحرية.
حكاية وجدة هي حكاية بسيطة، عن فتاة تنتمي لبيئة متوسطة وتحلم بشراء دراجة لتسابق صديقها ابن الجيران عبد الله. لا شيء استثنائياً وغريباً، لكن الفتاة تعيش في السعودية، فهنا ممنوع على المرأة قيادة السيارة وركوب الدراجة والاختلاط بالرجال في أماكن العمل.
تأخذنا الكاميرا مع بطلة الفيلم ‘وجدة’في رحلة إلى عالم النساء السعودي المحجوب عن عيون الرجال والغرباء وتصبح عين الكاميرا عيننا التي نرى بها. العباءة السوداء الطويلة، التي تخفي معالم الجسد والوجه وتجعل المرأة شبحاًبلا هوية شخصية، تبدأ بالسقوط رويداً رويداً لنكتشف نساء مختلفات يلبسن الملابس العصرية في البيوت ويذهبن للعمل في المدارس والمشافي ولكن حريتهن محصورة في عالم حريمي، لا مكان للرجل فيه إلا كمحرم. عالم يقوم على فصل الجنسين ولكنه رغم ذلك لا يستطيع حماية المرأة من ازعاج السائق الأجنبي ومن تحرش عمال البناء في الشارع ومن نظرات الشهوة في عيون بائعي المحلات. وهو عالم غير مثالي فرغم كل إجراءات الرقابة والتفتيش تحصل التجاوزات داخل مدرسة البنات وترتكب الخطايا والأخطاء، فتتلاعب الطالبة عبير بقوانين المدرسة وتزور تصريح الخروج لتلتقي بعشيقها، ويمارس الشذوذ الجنسي بالخفاء داخل أسوار المدرسة، وتزوج الصغيرات وهن لم يتجاوزن الثانية عشرة، وحتى مديرة المدرسة الصارمة لا تسلم من الأقاويل بعد أن ألقي القبض على سارق في منزلها وأشيع فيما بعد أنه سارق قلبها وعشيقها.
معاناة المرأة السعودية اليومية نعيش تفاصيلها من خلال ‘أم وجدة’، المرأة العاملة والزوجة الجميلة. فهي تعيشتحت رحمة السائق الباكستاني وطول لسانه، وهو الذي لا يتوقف عن التذمر والتهديد بالتوقف عن توصيلها للعمل تحت حجج واهية ووهمية، كما أنها تعيش من ناحية أخرى تحت سطوة المجتمع الذكوري الذي يبيح للرجل الزواج من امرأة أخرى مادامت زوجته الأولى لم تنجب له ‘ولي العهد’ الابن الذكر وحامل اسم العائلة. ترصد لنا الكاميرا الأم في كل محاولاتها اليائسة للإبقاء على زوجها وفي النهاية فشلها في الاحتفاظ بهرغم كل الحب بينهما، فالرجل كالمرأة في هذا المجتمع محكوم بالتقاليد والعادات وسلطة الأسرة.
داخل هذه الأسرة وفي قلب هذا المجتمع المغلق تعيش الطفلة وجدة، وتحاول في كل يوم أن ترسم نافذة في جدار المحرم والممنوع. نوافذ وجدة عديدة ومختلفة الأحجام والأشكال، كل شيء في عقلها قابل لإعادة التشكيل والتغيير، لا مسلمات لديها بل أسئلة مباحة وحلول متاحة.عشقها للفرح والحياة يجعل الموسيقا ترافقها في كل مكان، وفي مجتمع يعتبر صوت المرأة عورة يعلو صوتها ويصدح بالألحان، ولا تتردد عن سؤال أمها صاحبة الصوت العذب عن السبب وراء عدم احترافها للغناء، سؤال لا تملك الأم أمامه إلا أن تغطي وجهها خجلاً وحياءً. وعندما لا تعثر على اسمها في شجرة العائلة المخصصة للذكور تحل المشكلة ببساطة وتلقائية فتمزق ورقة من كراستها وتعلق اسمها بملقط شعر تحت اسم والدها، فهي ترى أن مكانها إلى جانب الرجل فوق شجرة العائلة وفي داخل المجتمع وفي كل مكان. الرجل بالنسبة لهاشريك وليس مخلوقاً فضائياً لتخاف منه وتختبئ، فنراها تتابع اللعب في باحة المدرسةعندما تهرب صديقاتها خوفاً من أن يراهن عمال البناء المقابل، كما أنها لا تتوانى عن الرد على السائق الباكستاني الذي يزعج والدتها واسكاته، ونجدها تشارك البنات والصبيان على حد سواء اللعب ولا تستطيع أن تسلم بأن ركوب الدراجة هواية محرمة على الفتيات حفاظاً على عذريتهن.
في لقطة سينمائية ساحرة يعبر حلم وجدة الشاشة أخضر وسريعاً كلمح البصر…حلم على هيئة دراجة هوائية خضراء، نخال للوهلة الأولى أنها تسير أو تطير وحدها بين السيارات ولنكتشف بعدها أنها محمولة على سطح شاحنة تقلها إلى محل الألعاب، ومنذ تلك اللحظة التي ترى فيها وجدة الدراجة محلقة في سماء مدينتها، لا تتوقف عن الحلم بأن تركب هذه الدراجة يوماًما في شوارع المدينة وتسابق ابن الجيران عبد الله وتتفوق عليه…لا تكتفي وجدة بالحلم بل تفعل كل ما تستطيع ليصبح هذا الحلم حقيقة، فتعمل من دون كلل في صنع أساور النوادي الرياضية وبيعها لزميلاتها وتذهب بالمغامرة إلى أبعد الحدود عندما تقرر المشاركة في مسابقة حفظ القرآن للحصول على الجائزة المادية. ومن هنا يبدأ التحدي الكبير للطفلة التي لا تتقن التجويد ولا الترتيل وتريد بأي ثمن الفوز بالجائزة فتشتري أشرطة تعليم القرآن وتبدأ بحفظ السور والآيات ولكنها لا تنجح في التجويد إلا عندما يخرج الكلام من القلب في إشارة جميلة إلى أن الدين هو رحمة وتسامح لا اكراه وترهيب. ولكن بعد كل ما بذلته من جهد لا تحصل وجدة على دراجتها،فعلى الرغم من فوزها بالجائزة إلا أنها تحرم منها ويتم التبرع بها لأجل فلسطين في لفتة ذكية من المخرجة إلى استخدام قضية فلسطين في العالم العربي من قبل الطغاة لاغتيال الأحلام ووأد الحرية في مهدها.
ولكن الفيلم لا يترك بطلته من دون ‘الدراجة الحلم’ ولا يترك المشاهدين بلا بصيص أمل، وفي النهاية تنحاز الأم لحلم ابنتها وتشتري بالنقود التي ادخرتها لشراء ثوب سهرة أحمر، دراجة وجدة الخضراء. فالرجل الذي كانت ترغب بأن تلبس له الثوب قد تزوج عليها ولم يبق لها في هذه الدنيا إلا ابنتها وكما تقول لها في النهاية: أريدك أن تكوني أسعد انسانة في الدنيا. هذه العلاقة الخاصة التي تربط الأم بابنتها هي علاقة جميلة وحميمية،فهما تتقاسمان الكلام، الأسرار، الطعام والغناء في ظل شبه غياب للأب عن تفاصيل الحياة اليومية، فمروره السريع في حياتهما يجعله خارج الحدث. وعندما تخبره وجدة عن الدراجة يبدو وكأنه لا ينصت ولا يعير انتباهاً لهواجس الصغيرة. وجوده معها يختصره حجر أسود أهداه لها ليجلب الحظ ونراها تمسكه وتداعبه قبل المسابقة وكأنها تبحث عن لمسة الأب ومباركته لها.
ينتهي الفيلم بوجدة على دراجتها الجديدة تسابق صديقها عبد الله وتفوز عليه، ثم تقف عند مفترق طرق مترددة بين الاستمرار أو العودة مع ابتسامة فرح ونصر لا يمكن اخفاءها.
الطريف في الفيلم أنه عرض كفيلم سعودي في الخارج وفاز بالكثير من الجوائز العالمية ولكنه لم ير النور في بلد المصدر ‘السعودية’ فلا وجود لصالات سينما في بلد ينتج ملايين البراميل من النفط يومياً ويمنع انتاج فيلم سينمائي واحد. حتى أن مخرجة الفيلم هيفاء منصور كانت تضطر في كثير من الأحيان للاختباء في شاحنة صغيرة وإعطاء تعليماتها للممثلين والتقنين عبر جهاز لاسلكي، ولكنها كبطلتها وجدت نافذتها التي تفتحها في جدران الممنوع ومضت بحلمها في الاخراج حتى النهاية.
قصة وجدة هي قصة كل فتاة تقاوم قمع المجتمع وتبحث عن ذاتها داخل قوالب التقاليد الجامدة وتوابيت الأعراف البالية، هي الروح التي لا تتوقف عن البحث عن معنى الحياة والحرية وهي الأمل بأن لا مستحيل يقف أمام الإرادة والعمل الدؤوب.
في كل منا بعض من وجدة ولكل منا حلم…المهم أن لا نفقد الأمل وأن نثق بأنفسنا وبقدرتنا على تحقيق المستحيل وجعل الأحلام واقع معاش…السجون من حولنا كثيرة والسجون ليست دائماً بقضبان حديدية ولكن السجين يستطيع بإرادة الحياة والتصميم أن ينتصر على سجانه ويحفر كوة في جدران القمع ليصل للحرية وراء الجدار، حرية قد تكون بلون أخضر وعلى شكل دراجة عندما تكون السجينة طفلة سعودية صغيرة اسمها وجدة.

‘ كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسني:

    قبل أسبوع قرأت مقالا عن وجدة في نفس الصحيفة وكان اكادميا جافا لم استطع إكماله ولا فهمه. اليوم مع هذه المقالة أجد أن الكاتبة نقلت عناصر الفيلم بشوق وحب وعاطفة ادبية جميلة. مثل هذه المقالات ما يشجعني على مشاهدة الفيلم والتمتع به.

اشترك في قائمتنا البريدية