دليل أردوغان في تفكيك الدولة العميقة 

لم يعد سراً ما يعانيه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من ظروف صحية صعبة، ربما تجعله عملياً بعيداً عن تلبية المهام التي يتطلبها حكم بلد كبير مثل الجزائر، ومع ذلك فوجوده في المنصب الرئاسي يعتبر ضرورياً لمن يديرون من وراء الستار، فالجزائر نموذج فعلي لفكرة الدولة العميقة، التي تعرضت لكثير من النقد، الذي يدور حول غموض وضبابية المصطلح نفسه.
المطمئن والمقلق في الحالة الجزائرية، أن البلاد تتم إدارتها من مجموعة حكم لا تعتبر حضور الرئيس أمراً أساسياً في حد ذاته، ومع ذلك، فهذه المجموعة أو الطبقة تكتسب كل شرعيتها من وجود الرئيس، ولا يمكن أن تغامر بأن تخرجه من المعادلة، حتى في الظروف الحالكة المرتبطة بحالته الصحية، ولذلك جرى تجاهل المطالب التي ذهبت لإعلان شغور المنصب الرئاسي من قبل بعض اﻷحزاب السياسية، إبان تغيبه الطويل عن البلاد قبل خمسة أعوام.
الجزائر واحدة من دول كثيرة تكتسب الكواليس فيها أهمية أكبر من خشبة المسرح نفسها، فالقابعون في هذه الكواليس لا يطمعون في الظهور، ولا يبحثون عن إعجاب من أي أحد، ولا تشغلهم كثيراً مسائل من عينة البطولة أو الكاريزما، أو ما سيقوله التاريخ عنهم، في أفضل الأحوال، يمكن أن تنحصر أمنياتهم بخصوص التاريخ في أن يغض الطرف بالكامل عن سيرتهم وأن يطوي صفحاتهم بكثير من الهدوء، وفي ظل صعوبة الإحاطة بالدولة العميقة أو الإمساك بأطرافها، تكمن تلك الهيبة التي تتمتع بها، بحيث يبدو أنه لا مناص من التعايش معها والاستسلام لتدابيرها الغامضة.
قدمت تركيا في النصف الثاني من القرن العشرين نموذجاً صارخاً للدولة العميقة، للدرجة التي جعلت حديثاً عن الخروج من وصاية مفرداتها ضرباً من السذاجة ومدعاة للسخرية أو التحسر، ومع ذلك قدّمت تركيا أيضاً نموذجاً خلال فترة عقدين من الزمن في تفكيك الدولة العميقة، من خلال مجموعة من الشروط التي لا يعتبر تحققها مستحيلاً، وإن كان يتسم بصعوبات جسيمة، فصعود الرئيس رجب طيب أردوغان السياسي، كان يكتب نهاية الدولة العميقة ويقوض أساس السيطرة العسكرية والأمنية. حضرت الكاريزما الشخصية التي يمتلك أردوغان، تصوراً واضحاً لشروطها لدى المواطن التركي، فالرجل المديد القامة خلافاً لمعظم أهالي اﻷناضول، يتخذ صورة بطولية في ملامحه العامة، ويعطي وجهه مسحة من الحكمة واﻷبوية التي يفضلها الجيل القديم من اﻷتراك، وتمد اﻷجيال الجديدة بشعور المرجعية، وهذه الشروط تركية للغاية، ومن الصعب أن تجد أي قيمة خارج تركيا. في تفاصيل الكاريزما الأردوغانية، يحضر أيضاً الحزم الديكتاتوري الذي لا تأنفه كثيراً الشعوب الشرقية، التي كثيراً ما تعلن حنينها لصورة المستبد العادل، فأردوغان هو نسخة تركية عن جمال عبد الناصر، وإن كان يتمتع بمرونة كبيرة عن نظيره المصري، استطاعت أن تمكنه من تغيير موجة الحلم التركي ﻷكثر من مرة، فاﻷتراك المهووسون بفكرة الفاتح، وجدوا في الخطوات المتسارعة لرئيس وزرائهم – آنذاك – لدخول الاتحاد اﻷوروبي تحقيقاً لفكرة الفاتح/ الغازي، ووجدوا أيضاً في فكرة الصدام مع أوروبا، وانحسار اﻷمل في الدخول تحت مظلة بروكسل، تعبيراً عن غضب تركي يرفعهم لموقع الندية مع اﻷوروبيين، ويجعلهم من جديد شبحاً يخيم على أوروبا، من الناحية الديموغرافية بعد التراجع الكبير في تأثيرهم العسكري. كان لذلك كله أن يتحول إلى مجرد استعراضات فارغة، لو لم يترافق مع منجزات فعلية على الأرض من المدخل الخدمي في بنية الدولة، بعيداً عن أي تداخل في البنية السياسية العليا، أي من موقع بلدية اسطنبول، كبرى المدن التركية وأكثرها تأثيراً، التي كان أردوغان يديرها، واستطاع أن ينقلها من مدينة فوضوية كئيبة إلى واحدة من المقاصد السياحية العالمية المرموقة، مع توفير مجموعة من الخدمات المميزة لسكانها، وفي هذه الدرجة من الإدارة المحلية التي لا تواجه تنافساً كبيراً من الخصوم السياسيين، ولا تشكل شيئاً في منظومة الدولة العميقة المهيمنة على إنتاج وإدارة القوة والسطوة في المجتمع، استطاع أردوغان أن يشق طريقه في خضم البحر العاصف والمتلاطم للدولة التركية، بدأت التجربة اﻷردوغانية تحجز موقعها في الذهنية التركية.
واجه واقع الدولة العميقة المستغلق والمستفحل مشروعاً طموحاً يستطيع أن ينتج مجموعة من المنجزات الملموسة، وبغير ذلك يصعب أن تواجه أي سلطة الخنادق التي تقيمها الدولة العميقة حولها، ولا يمكن للمواطنين أن يضحوا بالواقع المستقر، على الرغم من ظروفه السيئة، بدون أن يمتلكوا خيط مستقبل واعد مهما بدا بعيداً وحالماً، وتسويق الحلم كان واحداً من نقاط القوة في مشروع أردوغان الذي انبنى على مجموعة من المنجزات الصغيرة، مثل إعادة تصحيح مسارات التعيين في أجهزة الدولة المختلفة، وهو اﻷمر الذي أدى إلى عملية خلق تيارات مساندة ومتحمسة لمشروعه الذي كان يؤسس لبديل الدولة العميقة، حتى لو كان يحمل في داخله بذور دولة عميقة أخرى. كان أردوغان يمتلك حضوراً اقليمياً واسعاً قبل اﻷزمة السورية، التي أخرجته من قاعدة عدم الاشتباك الخارجي، أو ما يسمى بسياسة (صفر مشاكل)، وهي واحدة من روافع مشروعه، فالدولة العميقة عادة ما تستدعي فكرة الخطر من الخارج، والحياة على الحافة من أجل خلق مبررات لسلوكها تجاه مواطنيها، والسياسة المنفتحة تجاه الجيران استطاعت أن تسحب وتحيد مبررات الذهنية اﻷمنية، وربما كانت هذه السياسة الضربة المؤثرة لبنيان الدولة العميقة، حيث لم يعد للجنرالات دور كبير في ظل رواج اقتصادي قائم على مد تجاري وثقافي، استطاعت تركيا أن تمارسه قبل اﻷزمة السورية. وصفة أردوغان أصبحت مهددة أمام فقدانه التحديات التي كانت تظهر قدرته على التحول من الحزم إلى المرونة وبالعكس، فحصوله على صلاحيات واسعة للمنصب الرئاسي الذي تولاه، وتبعات الانقلاب العسكري الفاشل التي مكنته من إزاحة معظم خصومه باتهامات جاهزة ومعلبة، جميعها ظروف جعلته سلبياً أمام التحديات التي تتفاعل في تركيا، فالتركيز لدى أردوغان يتحول إلى تمكين طبقة من حلفائه وأصحاب الولاء لمشروعه، وشخصه أيضاً، من السيطرة على الدولة في جميع المستويات والمجالات، وهذه الطبقة هي مشروع دولة عميقة جديدة، ستضطر مع الوقت إلى ممارسة الحيل التقليدية نفسها التي استهلكتها الدولة التركية منذ تأسيسها اﻷتاتوركي، الذي لم يكن ليؤدي دوره بنجاح وصورة ناجزة لولا محاولته لبناء بدائل سريعة وعنيفة للمؤسسات العثمانية، ولا يبدو أن الرئيس أردوغان يمتلك الحساسية السابقة نفسها التي جعلته يستطيع أن يتقدم في حقل الدولة العميقة المزدحم باﻷلغام. تركيا اليوم ليست الدولة العميقة التي يمكن مقارنتها بما يحدث في الجزائر أو مصر ودول أخرى في المنطقة، وأزمتها اليوم هي في وجودها الفعلي على الحافة، التي تضعها أمام اعتناق الحساسية ذاتها بالخطر والشعور بالوصاية، ويعيدها دولة عميقة يصبح فيها أردوغان نفسه مجرد صورة غير مهمة الحضور وذات وجود رمزي يستهلك شرعيته التي بنيت من منجزات ستصبح مهددة بالخوف والقلق.

*كاتب أردني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول .Dinars:

    يكفي إردوغان سلت معطلات النهوض بتركيا من مركز القرار الذي أضر بتركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كما تخلص إردوغان بطريقة سلسة وسلمية ودون لجوء للعنف وهو ما يجب أن يحدث في معظم البلاد العربية بالنسج على منوال إردوغان.

  2. يقول مأمون علي أدیب:

    البقاء في الحکم طويلا يٶدي الی ترهل المٶسسات وتمکن الدوله العمیقه من السيطره علیها

  3. يقول جميل:

    وعاش عبد الناصر عشرين عاما في ضجة اعلامية فارغة ومشاريع دعائية واشتراكية خائبة ، ثم أفاق على هزيمة تقسم الظهر وعلى انهيار اقتصادي وعلى مائة ألف قتيل تحت رمال سيناء وعتاد عسكري تحول إلي خردة ، وضاع البلد وضاع المواطن.
    وكانت خاتمة الناصرية في بلادنا هزيمة مخزية واحتلالا اسرائيليا وانهيارا اقتصاديا وما كانت الناصربة الا فكرا لقيطا مستوردا … وشعارات خاوية جوفاء … وذريعة للقمع والتسلط.
    من اقوال المفكر مصطفى محمود

  4. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري عنوان وتحليل رائع، ما عدا مقارنة رجب طيب أردوغان بجمال عبدالناصر لم تكن موفقة،

    لو أختار صدام حسين كان ممكن يكون أكثر منطقية وواقعية بشكل عام.

اشترك في قائمتنا البريدية