أربعون عاماً على رحيلها… الياس سحّاب يقرأ في مسيرة أم كلثوم: تدرَّجت من الديني إلى الدنيوي وأحمد رامي غذّى ثقافتها

حجم الخط
1

بيروت ـ «القدس العربي»: رغم مرور أربعين عاماً على رحيلها لا تزال أم كلثوم موجودة كحالة فنية عظيمة تستدعي التوقف عندها، رغم الاختلاف الزمني كلياً. رحلت أم كلثوم في الثالث من شباط/فبراير 1975 عن إرث فني نادر، وصوت لا يزال حتى اللحظة يثير الجدل حول قوته. كُتبت حولها مئات الكتب والدراسات منها الموثوق، ومنها ما يحتاج للصدقية. منها المتضمن ثقة بالمؤلف والناشر معاً، كموسوعة أم كلثوم المؤلفة من ثلاثة أجزاء. وضعها كل من الياس وفيكتور سحّاب، وصدرت بشكل أنيق في ذكرى رحيلها الثلاثين، ولا تزال تتصدر المكتبات الكبرى. وضع فيكتور سحّاب جزئين من هذه الموسوعة، ويتضمنان أغنياتها مسجلة. وفيهما 300 أغنية موزعة بين قصيدة، دور، مونولوج، طقطوقة، موّال ونشيد مدونة جميعها بكلماتها، اسم الشاعر والملحن. وهي رصدت أشكال التلحين العربي في القرن العشرين، مع تحليل لكل أغنية.
الجزء الأول من الموسوعة وضعه الناقد والباحث الفني والكاتب الياس سحاب، متناولاً سيرتها من النشأة وإلى نهاية حياتها. أربعون عاما على رحيل أم كلثوم فهل كان لها التكريم الذي تستحق؟ الباقي من فنها أهم من التكريم في الحياة وبعد الموت في رأي سحّاب. يضيف محللاً: خلود أي فن يرتكز على قيمته الفنية. لا شك بأن أم كلثوم انجزت أعمالاً فنية خالدة. طورت الغناء العربي، واحتلت مكانة أساسية فيه. يبقى السؤال كم للأجيال التالية بعد هذا الفنان تقدير انجازاته. نحن في مرحلة ملتبسة حالياً يقول سحّاب. علاقة الأجيال الحالية تنقطع بالمرحلة الذهبية التي امتدت لقرن ونصف. في القرنين التاسع عشر والعشرين لم يتوقف التطور الفني جيلاً بعد جيل. كل جيل كان ينهل من سابقه ويضيف إليه، وصولاً إلى زياد رحباني، وهو آخر الأجيال الجديدة ذات القيمة الفنية. في السبعينيات حدث انقطاع في التسلسل. بدت الأجيال الجديدة في الفن، وكأن انجازاً لم يسبقها. ومع ذلك لم تزل أم كلثوم من أكثر فناني المرحلة الذهبية تداولاً وتذكُراً بين الناس، ومعها عبد الحليم حافظ.
يوجه الجيل الجديد «عنايته لمرحلة غناء أم كلثوم الاخيرة»، وهذا ما يعتبره سحّاب ضعفاً. ويضيف: كانت الستينيات وأول سنتين من عقد السبعينيات نهاية فن أم كلثوم، بينما تكمن عظمتها الفنية في العشرينيات والثلاثينيات وما بعدها. ولاشك أن ما قدمته في الستينيات، شكل إضافة، وقفلة تاريخية لفنها. الستينيات وما بعدها، قد يكون أضعف حلقات فنها، في حين الأقوى منها كانت حتى منتصف القرن العشرين.
أم كلثوم ابنة رجل دين هو الشيخ ابراهيم البلتاجي، مؤذن قريته، منشد التواشيح الدينية، وأولاها انشاد بعضها. حاول الياس سحّاب الإضاءة على كيفية شق ام كلثوم طريقها نحو الغناء الدنيوي ومن القاهرة تحديداً. بحسب أبحاثه: تداخلت الكثير من العوامل في انتقال أم كلثوم من الإنشاد الديني إلى الدنيوي. البداية في عظمة صوتها. منذ طفولتها صوتها خارق للعادة. وبغير ذلك لم يكن اثنان من كبار الفنانين اللذان لعبا دورا كبيراً في تاريخ الفن العربي وهما الشيخ أبو العلا محمد، والشيخ ذكريا احمد انتبها لتلك الفتاة وهي في قريتها طماي الزهايرة، وزاراها مراراً في منزلها العائلي. وهما أول من قالا لوالدها بضرورة انتقال هذا الصوت من المناطق الريفية. بل يجب انتقاله إلى القاهرة وإلى الغناء الدنيوي. لم يتجاوب الأب بداية. خاف الانتقال من مجتمعه المنغلق المحدد بقريته ومحيط مدينة المنصورة. لحسن الحظ تكونت قناعة الانتقال لاحقاً لدى الأب. وصول أم كلثوم إلى القاهرة لم يكن الحل. كانت ضرورة للبحث عن ظروف انتقال مؤاتية من الغناء الديني إلى الدنيوي وبخاصة لفتاة. فمعظم مغنيات ذاك الزمن كنّ في الكاباريهات. وهذا ما ترك مسافة كبيرة بين ام كلثوم وانتقالها إلى الغناء الدنيوي.
يعود هنا سحّاب لذكر الشيخ أبو العُلا محمد. قام بعمل خارق في رأيه. «اعطاها من الغناء الدنيوي ما هو أشد وقاراً. غناء القصيدة وهي كانت رصينة ومستمدة من التجويد القرآني والإنشاد الديني. كانت نقلة أولى وطبيعية. التطور نحو مرحلة تالية تطلب شخصيات أخرى تلعب الدور نفسه الذي لعبه الشيخان أو العلا محمد وذكريا أحمد. فكانت شخصية الملحن محمد القصبجي، الذي كان استاذها الثاني بعد أبو العُلا محمد. في انتقالها للغناء الدنيوي احتاجت أم كلثوم لتخت موسيقي قوي، فشكله القصبجي. تألف من عازفين كل منهم يصلح قائداً لفرقة موسيقية، أمثال عازف القانون التاريخي محمد العقّاد. في هذه المرحلة لعب القصبجي دور قائد الفرقة الموسيقية، ومن يضع الألحان الجديدة. مع القصبجي انتقلت أم كلثوم لغناء المونولوج. كان فناً جديداً ساهم في ابتكاره كل من سيد درويش، محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب. وضع القصبجي الأسس الثابتة لفن المونولوج. أداته في تطوير هذا الفن الخطير في ذاك الزمن كانت حنجرة أم كلثوم.
بين الماضي والحاضر نلمس بالدليل الساطع انعداماً كلياً للتناغم بين ما هو ديني ودنيوي على صعد عدة. ربما يكون السبب في انعدام التسامح حالياً أو حتى انعدام الثقافة المنفتحة. بحسب ما درسه في الموسوعة يقول سحّاب: في المجتمع تياران، أحدهما يحرم الغناء ويعتبره خارجاً عن الدين والشريعة، وآخر مستنير يرى في الغناء رقياً ليس مضاداً للدين. وفي عصر أم كلثوم ناصرها شيوخ وناهضها آخرون.
بذكره لموسوعة أم كلثوم تحدث سحّاب عن الفصل الخاص الذي كان عنوانه «غروب عصر وشروق عصر»، بما يعنيه ذلك من انتقال لفن أم كلثوم بين أبو العلا محمد والقصبجي. لكننا نسأل قبلها عن رعاية حظيت بها أم كلثوم من مجموعة شيوخ دين في القاهرة على رأسهم الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان شيخاً للازهر. فكيف هذا الاحتضان الديني لمن تؤدي الغناء الدنيوي؟ أوضح محدثي: أصبح مصطفى عبد الرازق شيخاً للأزهر في الاربعينيات، وحينها كانت أم كلثوم قد احتلت موقعها. الشيخ عبد الرازق من المستنيرين، وزميلاً لطه حسين في الدراسة في جامعة السوربون في باريس. لم يخرج عن الاصول، إنما تمتع بآفاق واسعة. الشيخ عبد الرازق صعيدي ومن الأرياف، ولهذا كان له دوراً اجتماعياً، وصار مرجعاً لكل من يأتي من الريف إلى القاهرة. لعب الشيخ عبد الرازق دوراً في حماية أم كلثوم اجتماعياً لأنها تعرضت لغيرة مهنية من فتحية احمد ومنيرة المهدية. والثانية كانت لها محاولات عديدة لتحطيمها بهدف اجبارها للعودة إلى الريف، فتناولتها بشائعات أخلاقية. وهذا كان أكبر من ان يحتمله والدها. تدخل لحمايتها الشيخ مصطفى عبد الرازق، لما له من مركز ثقافي وسياسي مهم إلى جانب مركزه الديني.
في زمن كان يعاب على الرجل «شغل» الكباريهات هل تمردت أم كلثوم على جذورها الريفية؟ إلى ماذا أفضت أبحاث سحّاب؟ خدم أم كلثوم انتقالها من محطة لأخرى بشكل طبيعي. صوتها التاريخي وغير المسبوق ساعدها في ذلك. إذاً العامل الأساس هو عظمة الصوت. وتالياً كونه صوتاً تربى على الانشاد الديني، وهذا ليس للنساء، بل لكل الرجال المغنين. خرجت عن المألوف في اجادة وإتقان الانشاد الديني أفضل من كثير من الرجال. في مراحل تطورها التالية مع القصبجي، السنباطي ومن ثم بليغ حمدي، الموجي، كمال الطويل، محمد عبد الوهاب وغيرهم، كانت جذور أم كلثوم حاضرة معها. بقيت أم كلثوم ابنة طماي الزهايرة، وابنة فرقة الانشاد الديني، حتى مع تطورها وغنائها بمرافقة الاوركسترا الكبيرة.
من عادة الموهوبين أن يتمردوا وأن يكسروا القواعد والاصول. كان لعظمة أم كلثوم أن تأخذها بعيداً في هذا الدرب. فهل فعلت؟ في موسوعة أم كلثوم كان لسحّاب رأي تحليلي يوجزه كالتالي: التطوير الذي أحدثه محمد القصبجي بشكل خاص على فن أم كلثوم تجاوز بكثير مزاجها المحافظ. عاشت وماتت وهي صاحبة مزاج محافظ. ربما تطورت قليلاً، إنما بقي مزاجها مشدودا لأصوله المحافظة. ولهذا عندما كانت تعبر عن التجديدات الموسيقية الهائلة التي ادخلها إلى الغناء في أواخر العشرينيات، وأوائل الثلاثينيات كانت في موقع التلميذة للقصبجي. تؤدي ما يدربها عليه وبلمعان شديد. وبغير ذلك لما نجحت التجديدات الخطيرة والجديدة على الذوق الموسيقي التي أتى بها القصبجي. وكان مونولوج «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» هو البداية. وحتى اللحظة لا يزال مودرن. كان القصبجي مدهشاً في تجديده.
المرأة الآتية من الريف المصري كيف كونت ثقافتها؟ بمن تأثرت؟ من الطبيعي أن مدرستها الأولى هي الانشاد الديني بحسب سحّاب. وأضاف: فيما بعد كان الشاعر أحمد رامي هو استاذها، تماماً كما كان لمحمد عبد الوهاب استاذا عظيما جداً هو الشاعر أحمد شوقي. في النصف الأول من العشرينيات كان لقاؤها مع رامي، إثر عودته من باريس بعد دراسة علم المكتبات، واللغة الفارسية ليترجم لاحقاً رباعيات الخيام من لغتها مباشرة إلى العربية. بعد عودته تولى رامي وظيفة رئيس دار الكتب في القاهرة، وبدأت أم كلثوم في غناء قصائده. تحول من الكتابة بالفصحى إلى الكتابة بالعامية لتغني قصائده أم كلثوم. في مسلسل أم كلثوم الذي كتبه محفوظ عبد الرحمن ورد أن جلسات أسبوعية كانت تعقد بين رامي وأم كلثوم. وكان يأتيها بالكتب العربية كما كتاب الأغاني، دواوين المتنبي، امرؤ القيس وغيرها. كانت تقرأ الكتاب على مدى اسبوع، تسجل ما عصي عليها وتستفسر عنه رامي في اللقاء التالي. أحمد رامي هو المصدر الثاني والأغنى لثقافة أم كلثوم.
حتى يومنا هذا لا تزال أم كلثوم من الشخصيات الفنية الأكثر قوة في حضورها بين الشعراء، الملحنين، المثقفين وكذلك السياسيين. كيف تكونت تلك الشخصية؟ يرى سحّاب: أنها حققت صعوداً اجتماعياً في القاهرة، وصل إلى بناء علاقة مع أركان القصر الملكي. ويضيف: ثمة حكاية بأن خال الملك وقع بغرامها، ونوى الزواج منها. رفضت العائلة المالكة زواجاً من فتاة ريفية ذات أصول متواضعة. إنما تلك الاصول المتواضعة لأم كلثوم لم تمنع وصولها لأعلى سلم التطور الاجتماعي. فنخبة المجتمع المصري من كبار المثقفين، ومن باشوات وبكاوات التفت حولها، واستمعت إليها. أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب جلسا في أعلى السلم الاجتماعي في القاهرة وذلك من خلال فنهما العظيم.
يقرأ سحّاب في حياة أم كلثوم كشريط سينمائي متواصل ويقول: هي من الفنانين النادرين المعتدين دون حدود بفنهم. كانت حياتها تدور حول فنها. كانت حياتها مخالفة لحياة اسمهان، التي كانت منافستها الجدية الوحيدة، فالأخيرة احبت الاستمتاع بالحياة. أهم أهداف أم كلثوم في الحياة تمثلت بايجاد قصيدة تستحق الغناء، فصحى أم عامية، وأن تجد لها الملحن المناسب. هذا الهاجس الذي شغل أم كلثوم تفوق على هاجسها كامرأة. ولهذا كانت مسألة الزواج في حياتها جانبية جداً. ولم أجد حاجة لبذل مجهود لتأريخ هذا الجانب في الموسوعة. ولأن أم كلثوم كانت منشغلة بفنها فقط فهي لم تتوقف عن الغناء سوى قبل وفاتها بسنتين، ولم تعترف بشيخوخة صوتها. في حين توقف عبد الوهاب عن الغناء قبل وفاته بـ30 سنة.

زهرة مرعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مجلة الليبي:

    هل بالإمكان الحصول على ايميل السيد سحاب…

اشترك في قائمتنا البريدية