التوظيف السياسي للتصوف.. الجفري أنموذجا

استقل السيارة بصحبة شيخه ومعلمه، الذي استوقفه أحد المريدين ففتح له باب السيارة، وأصغى لحديثه حتى انصرف، وما كاد يتحرك حتى استوقفه الرجل مرة ثانية فتحدث معه حديثا طويلا، ثم انصرف، فنادى الشيخ على تلميذه بأن الرجل قد أغلق باب السيارة على أصبعه في المرة الأولى.
وهنا تعجب التلميذ سائلا شيخه: لماذا لم تتكلم من وقت إصابتك في المرة الأولى؟ فأجاب: كرهت أن أشق عليه إذا علم أنه أغلق الباب على أصبعي.
وهنا يعلق التلميذ الذي لم يكن سوى الداعية المتصوف علي الجفري قائلا: «هنا تعلمت الحفاظ على إحساس الإنسان الذي أمامي ألا أجرحه وإن آلمني هو». ويواصل الجفري في حديثه لأحد البرامج الإذاعية، أنه تعلم من مشايخه ضرورة التثبت والتحقق من المعلومة، وليس هذا في العلم الشرعي فقط، حتى في مفهوم الخبر ومواقع التواصل الاجتماعي، فكرة التأكد من المعلومة قبل أن يتبناها. لكن الجفري تخلّى عما تعلمه من الحِفاظ على مشاعر الآخرين، وعن التثبت من الأخبار قبل تبنِّيها، عندما تحدث في البرنامج عن أحداث فض اعتصام رابعة، معتبرا إيّاه مظلومية مفتعلة، وأن الصِدام قد افتعله المعتصمون، معتمدا الرواية الأمنية للنظام الانقلابي، في أن المعتصمين هم من بدأ إطلاق النار.
الجفري الذي يُدلي بهذا الحديث بعد أربع سنوات من المذبحة، كان أحد الرموز الدينية التي استعان بها النظام المصري لتبرير ممارساته القمعية، وتعزيز شعبية ذلك النظام لدى الشعب، استغلالا للمكانة التي حَظِيَ بها الجفري لدى شرائح واسعة من المصريين، إبّان حكم مبارك.
من الواضح أن ظهوره في هذا التوقيت كان بهدف إعادة وتعزيز الثقة في الجيش والشرطة خلال العمليات المُنفذة على أرض سيناء، التي تعد أحد الفصول المهمة لإتمام «صفقة القرن»، ما يعتبر حلقة جديدة في التوظيف السياسي لهذا الرجل المتصوف.
ابتداءً، أود التنبيه كالعادة إلى أن الصوفية كاتجاه ينزع إلى الزهد والتزكية ليست هي الصوفية الطرقية، التي اختلطت بالفلسفات الدخيلة حتى غيرت معالم الدين، فالجنيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل، كانوا سادة الزهاد العباد المنتسبين إلى التصوف، والطريقة السنوسية التي خرج منها عمر المختار كانت طريقة صوفية تلتزم إطار السنة المحمدية، وناضلت ضد الغزاة الإيطاليين، كما لن ينسى التاريخ رموز التصوف المناضلة أمثال الشيخ ماء العينين في موريتانيا، الذي قاوم المحتل الفرنسي، والشيخ عثمان فودي في غرب إفريقيا، الذي كان متصوفا يحارب البدع والخرافات ويقود المقاومة ضد الغزاة، وغيرهم ممن لهم بصمات حاضرة في التاريخ الإسلامي.
تسييس التصوف ليس وليد اللحظة الراهنة، فدائما كانت هناك علاقات قائمة بين المتصوفة والأنظمة على قاعدة المصالح المتبادلة، فتحصل الطرق الصوفية على المكانة والنفوذ والدعم المالي ومساحات واسعة لنشر الفكر، بينما تستفيد منها الأنظمة في شرعنة وجودها وسياساتها، إضافة إلى استخدام التصوف لصنع حالة من التوازن أمام التيار الإسلامي وما يعرف بالإسلام السياسي. تجلى ذلك بوضوح في الدولة الجزائرية في الثمانينيات، حيث اعتمد بوتفليقة على ذلك التيار لمواجهة نفوذ الحركة الإسلامية المتنامية، وتوسع في ترميم الأضرحة وإنشاء الزوايا الصوفية، وحرص على زيارة موالد الصوفية، والتغطية الإعلامية لفعالياتها، وزاد اهتمام بوتفليقة بالتيار الصوفي بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث تناغم ذلك مع التوجهات الأمريكية في دعم التصوف، لمواجهة ما يعرف بالإسلام الأصولي.
وفي مصر أولى عبد الناصر اهتماما كبيرا بالطرق الصوفية لدعم حكمه، وخلال صراعه مع جماعة الإخوان المسلمين، وعلى ذلك النهج سار السادات، ومن بعده مبارك، الذي عامل الصوفية على اعتبار أنها تمثل ثقافة المصريين، وعيَّن شيخ الطرق الصوفية عضوا في الحزب الحاكم، للحد من تمدد فصائل التيار الإسلامي، وما يعرف بالإسلام السياسي.
ولنا أن نعلم، أن شيخ الطريقة النقشبندية في أمريكا محمد هشام قباني، يعتبر حلقة الوصل بين البيت الأبيض والشعوب الإسلامية، وله مشاركات عديدة في اجتماعات الرؤساء الأمريكان بعد أحداث 11 سبتمبر، للاستفادة منه في مواجهة (الأصولية الإسلامية)، وهو مصطلح غربي يطلقونه على المسلمين الذين يتجهون للعودة إلى أصل الإسلام وشموليته.
الجفري كان ولا يزال أحد الرموز الصوفية التي تم توظيفها سياسيا من قبل النظامين الإماراتي والمصري، فالرجل يعمل ضمن شبكة التصوف السياسي التي أنشأتها أبوظبي في عهد محمد بن زايد، والتي تعمل على سحب البساط من تحت أقدام السلفية السعودية خاصة، وتضم هذه الشبكة لفيفا من رموز التصوف من العرب وغير العرب.
أبرز مؤسسات هذه الشبكة، هي مؤسسة طابة التي يتزعمها الجفري، ومن يتابع موقعها وأنشطتها يدرك بوضوح أنها لا تعبر إلا عن الصورة الغربية للفكر الإسلامي، وتتبنى مصطلح القيم الحضارية، بشكل ينسجم تماما مع توجهات المراكز البحثية الأمريكية (راند وأخواتها) لنزع خصوصية الإسلام وتطويعه للتناغم مع القيم الغربية، كما تقوم هذه المؤسسة بتجميل صورة الغرب ووصف خصومه بالإرهاب، وتتلاعب بما يعرف بتجديد الخطاب الديني توافقا مع رغبات الأنظمة المستبدة.
ويلاحظ في توجهات مؤسسة الجفري، أن القبول بالتطبيع مع الكيان الصهيوني والانسجام مع الرؤية الأمريكية هو أبرز معايير انتقاء النخب العاملة فيها، ولا يخفى أن علي الجفري كان أبرز الشخصيات التي زارت القدس، في وقت كادت الأمة أن تُجمع على أنه لون من ألوان التطبيع ينبغي ألا يصدر عن جاهل فضلا عن عالم.
الجفري كان أبرز الوجوه العلمية التي دفعت بها الإمارات لمؤتمر غروزني، الذي لم يكن سوى مؤتمر إقصائي يوقظ فتنة نائمة بين الأشاعرة والسلفية، حيث استبعد المؤتمر الذي ترعاه أبو ظبي شرائح واسعة من التيارات الأخرى المشتركة في الأصول نفسها، أبرزها التيار السلفي والإخوان المسلمين.
رئيس النظام الانقلابي عبد الفتاح السيسي استعان بالجفري لدعمه في ما يعرف بتجديد الخطاب الديني، الذي كان يعني بمفهوم النظام الالتفاف حول النصوص الشرعية والثوابت الإسلامية لخدمة أهدافه، وتوالى بعدها ظهور الجفري في مؤتمرات السيسي والمحافل الرسمية. ومما يثير الدهشة أنه في أحد تلك اللقاءات، تعسّف في توجيه حديث (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) وأشار إلى أن المراد به أرض الكنانة، علما بأن المراد أهل الشام عند جحافل وجماهير المحققين، لوروده في روايات أخرى على وجه التعيين، ولأن لغة النبي وأهل المدينة في أهل الغرب، أنهم أهل الشام.
الجفري يتم توظيفه سياسيا من قبل النظامين الإماراتي والمصري بامتياز، في الترويج لسياستيهما، باعتبارهما محور اعتدال، لمواجهة الكيانات الإسلامية المستقلة عن الأنظمة، والتماهي مع التوجهات الأمريكية والغربية. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية

التوظيف السياسي للتصوف.. الجفري أنموذجا

إحسان الفقيه

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول احسان الفقيه / تصويب:

    جزى الله اختي التي ارسلت هذا التصويب وأرجو المعذرة من الجميع ، بدل تسعينات
    ‏كتبنا ثمانينيات..
    شكرا اختي بسمه لبوخ على الرسالة الطيبة ونشرتها هنا لتوضيح خطأي غير المقصود …

    “فقط اريد تصويب معلومة صغيرة وردت في مقالك
    ‏ان بوتفليقة في ثمانينات أغدق على الصوفية وزواياها
    ‏بوتفليقة جاء للحكم فقط سنة 1999
    ‏وفعلا عمل على احياء الطرق الصوفية وشيد الزوايا وخصص لهم الأموال وهم اول داعميه عند كل انتخابات .

    ‏مقال قيم جدا
    ‏بارك الله فيك

  2. يقول علاءالدين الولايات المتحدة الامريكية:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    اختي الفاضلة المقال راءع وجزاك الله خيراً عليه .لكن مع الأسف طويل
    أودّ مشاركته علي الفسبوك وترجمته لإنجليزية . اذا أمكن وضعه في صورة مصغرة يكون فضل جميل من حضرتك
    وجزاك الله كل خير

  3. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    جاء تلميذ (حقيقي!) الى شيخه (الحقيقي ايضاً !) الذي لا يملك الا ابريقه الذي يستخدمه للوضوء و سجادته و مصحفه ، و سأله ان يعلمه الزهد (الذي يحاول المتصوفة اسباغه عليهم وعلى شيوخهم عبثاً !) و قال له يا شيخي علمني كيف الزهد يكون؟!
    .
    قال له شيخه ، انا لا اجيد ذلك ، و لكن سأرسلك الى من يعلمك الزهد !
    .
    كتب له رسالة و ختمها ، و اعطاه عنواناً في مدينة واسماً.
    .
    سافر التلميذ اياماً حتى وصل العنوان ، فسأل عنه ، فتبين ان صاحبه هو احد كبار القوم و شيخ تجارها ، وصل التلميذ الى قصر منيف و اعطى الرسالة الى حاجب القصر ، ليوصلها الى صاحبها ، و التلميذ يزداد تعجباً ، أصاحب مثل هذا القصر ، هو من سيعلمه الزهد ؟! هل اخطأ شيخه في العنوان ؟! هل سيسلمه المعني الى شيخ زاهد ليعلمه الزهد كما تخيله التلميذ ؟!
    .
    سارع الحرس و الخدم بأخذ التلميذ الى سيدهم الذي وقف و رحب به ترحيباً كبيراً وسط مجلس يعج بالعلماء و الادباء و الشعراء ، و امر بأن يأخذوه ليغتسل و يجهزوه بحلة انيقة و بعد ان فعل ذلك و عاد الى المجلس قدموا له ما لذ و طاب ، و الحال على هذا الحال لثلاثة ايام ، يحضر المجلس المتخم بالعلماء و قادة الرأي و يستمع الى ما لم يستمع اليه في حياته ، و بعد انقضاء الأيام الثلاثة ، وهو ينتظر متى ستبدأ دروس الزهد ، استدعاه الرجل ، سيد القوم ، و سلمه رساله الى شيخه وهدايا ثمينه ، و طلب منه ان يبلغه ذلك و شكر له حضوره!
    .
    استغرب التلميذ وعاد يقطع الطريق الى قريته غير مصدق متى سيصل ليستفهم من شيخه عن الذي جرى و حصل و اين دروس الزهد التي ارسلها اليه!
    .
    وحين وصل و ذهب مباشرة الى شيخه ليسأله عن هذا الذي جرى، قال له الشيخ، يا بني ،ارسلتك الى الزاهد الحقيقي، هذا الرجل يملك ما لا يحصى من الاموال و الاملاك ، لكنه ان خسر ذلك كله في يوم واحد ، لن تهتز شعره في بدنه ، اما انا الذي لا املك سوى هذا الأبريق و هذه السجادة ، لو ضاعا او سرقا ، لتهت و ضعت!
    .
    هذا هو الزهد يا بني و ليس مظاهر الفقر والخشونة والمسكنة،كما يتخيلها معظم الناس !
    .
    على اية حال، علي الجفري،منذ ان رأيته اول مرة ، كمحمد حسان، مثال للتصنّع و اعطاء الاحساس بعدم الراحة و المبالغة في ادعاء الطيبة و المسكنة!
    .
    جاءت الايام لتثبت حدسي واحساسي، ويا سبحان الله.
    .
    اتفق مع اخي سلام عادل، في ان ذلك موجود في كافة المجالات، لكن تأثيره من المتاجرين بالدين أشد وأخطر!

  4. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    أخي الفاضل علاء الدين،
    يمكنك ان تترجم المقال هنا في تعليق ، ثم ضع رابط المقال فقط على حسابك في الفيسبوك ، و اشر الى ان الترجمة موجودة في تعليق ، وبذلك تضرب عصفورين بحجر واحد ، ان يجد من يريد المقال باللغتين ، ان كنت لا ترغب بوضع ترجمته كاملاً هناك على صفحتك.

    احترامي و تقديري

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية