يختار طالب الرفاعي لحظة تحول حاسمة في تاريخ الكويت ليبني عليها روايته «النجدي»، وليست لحظات التحول تلك ظاهرة فيزيائية بادية للعيان، إنها مجموعة من القيم الثقافية ـ الاجتماعية التي يعتريها التغيير، وتتبدى من خلال سيرورة حياة أفراد البنية وصراعاتهم من جهة، ومن خلال تبئيير الحنين من جهة أخرى، حنين الأفراد لماضيهم الذي يجدونه دائماً أكثر صفاء وبراءة من حاضرهم، وهو ما تعبر عنه نظرية الرواية بـالحنين إلى القيم المفقودة في عالم متدهور.
تحمل حكاية الرواية ذلك التحول القيمي الذي يحرك الأحداث الشائقة في «النجدي»، إذ يذهب الرفاعي في هذا النص إلى استحضار شخصية وقائعية مؤثرة في الوجدان الشعبي في الكويت، عبر سرد تفاصيل الساعات الأخيرة لحياة أحد القباطنة الكويتيين المشهورين منذ النصف الأول من القرن العشرين، في مواجهته لعاصفة غادرة، وهو النوخذة علي ناصر النجدي، كما يستحضر وثيقة مرتبطة به، وهي كتاب «أبناء السندباد» للقبطان الأسترالي آلان فاليرز، الذي رافق النجدي في بعض رحلاته.
يبدأ وعي التحولات الكبرى بأسئلة الطفولة المفعمة بذكاء فطري، إنه ذكاء الطبيعة الذي لم تلوثه معطيات العلاقات الاجتماعية المعقدة: «ما الذي يفعله البحر بالسفن الكبيرة فتصبح صغيرة في حضنه البعيد؟». تكلف الإجابة عن هذا السؤال مغامرة حياة وموت بالنسبة للنجدي، مثلما تكلف مغامرة روائية لكل من المبدع والمتلقي، ليتشكل فضاء النص الواسع المتعلق زمنياً بعشرينيات القرن العشرين إلى ستينياته، والمتعلق مكانياً بالكويت ومحيطها، وما يفضي إليه الخليج العربي من شواطئ، آسيا والهند وإفريقيا الشرقية، التي تدور في فلك المركز الاستعماري البريطاني، ويمنح هذا الفضاء المتلقي شعوراً بالتواصل مع أسرار غائبة، من خلال مورفولوجيا النص: المغاصات، والشواطئ، والموانئ من جهة، والطقوس من جهة أخرى، فالطقس حد ثقافي، تنماز به المجموعات البشرية بعضها عن بعضها الآخر، إذ لا تتبدى الأفكار والعقائد والمعارضات والولاءات من غير طقوس. توقظ فينا الطقوس خبرات مشتركة لعالم الغوص والبحر، كأن تحيلنا إلى نصوص همنغواي في الصيد مثلاً، وتضيف إلينا معارف جديدة خاصة بالنسق الثقافي الذي تعبر عنه. إنها تجمع الألفة إلى الغرابة في الوقت ذاته، ما يصنع حالة درامية جمالية في النص.
يقوم النص على محمول معرفي واسع عن ممارسات دخول البحر ومتعلقاته من سفر وصيد وغوص، بدءاً من تحضيرات الشاطئ: التنبؤ بالأنواء، وتجهيز اللباس، والتعاقد مع النهامين (المطربين على السفينة)، والإقلاع، والوصول إلى المغاصــــات الخاصة، وشرب المسهل، وتناول القدوع (حبة تمر واحدة ورشفة قهوة)، إلى يوم الدشة (الدخول): الصلاة والدعاء.
يتم ذلك باستخدام الحقل الدلالي المختص بهذه الطقوس: المجدمي، السكوني، النوخذة، المغاص، النهامين، القلاليف، الطواويش، ينوخذ…». إن المعجم الخاص الذي صنعه الرفاعي لهذا النص، هو التمثيل الفعلي المؤثر للفضاء المتصور الذي مكننا من التواصل مع تلك الثقافة بعينها، ذلك أن «اللغة في سياقاتها الثقافية تجعلنا نفهم الثقافة ليس كأحد أبنائها، ولكن من موقعنا، وهذا ضروري، للتفاعل والمقارنة».
يرتبط عالم عرض البحر الذي نبحر فيه مع علي النجدي وبحارته، مع الحياة التي تمور بالتغييرات في الكويت خاصة، وفي العالم، عبر حركة الشخصيات مثل عبد الوهاب المواظب على قراءة الصحيفة، الذي يزودنا بالإحساس بالمزاج العام للمرحلة، وبالأحداث الرئيسة في فلسطين تحديداً، وكذلك شخصية التاجر علي بن عبد اللطيف الحمد، التي تحيلنا إلى مجريات الحرب العالمية الثانية، وتأثيراتها في اليمن والخليج. نعود إلى حركة تاريخ أقدم عبر ذكريات النوخذة النجدي عن نفسه، وعلاقته بمعلميه، والشخصيات التي أثرت فيه، والحرفيين الذين لهم علاقة بصناعة السفن، كالنوخذة يوسف القطامي، والأستاذ القلاف محمد حسين الذي بنى سفينة العائلة من نوع البوم، وحملت اسم (بيان)، وهي كلها شخصيات ممتلئة تاريخياً، وليست محدودة الأبعاد. أما معارف البحر فهي موروثة من كل من الجد والأب، يستحضرها علي على طول سيرورة الحدث: «نوخذة السفر صديق الريح والأهوال، يروح ويغدو وأمره بيد الله». ويضيف إليها خبرته الشخصية النابعة من تجربته مع البحر وأهواله، مع أسماك القرش الجائعة، والرياح التي ليست صديقة دائماً، والمنسوجة بخيط الرومانسية والمقامرة، فعلاقة النوخذة بالبحر كعلاقته مع امرأة، ودخوله مثل الدخول في مقامرة: «كلما كبرت السمكة أصبح اللعب معها أعقد وألذ».
يخرج المتلقي من فضاء النص بخبرة معرفية تحاكي واقعاً خاصاً، تنضاف إلى الخبرة الجمالية، محدثة أثراً فنياً بليغاً، ومفارقة قيمية، من غير تنفج أو ادعاء، بل يحملها السرد كما يأتي المد والجزر ويتخلق الموج الذي يحكي عنه فضاء النص، فالفن، حسب بارت، ليس شيئاً آخر سوى التجويد المكتمل في محاكاة الواقع.
ليست قوانين البحر وحسب هي ما يصنع فضاء النص: «إذا أردت أن تكون نوخذة، وجب عليك استنباط قانونك على السفينة». ثمة قوانين النوع الأدبي المتبعة في هذا النص من حيث المراوحة، من أجل بيان الإشكالية، بين الماضي والحاضر، وعالم البحر الذي يهم بالأفول أمام عالم النفط الناشئ في الصحراء، ومشاق صيد اللؤلؤ في الخليج العربي، وما وصلت إليه اليابان من إغراق العالم باللؤلؤ الزراعي: «أربعة أشهر والنوخذة يراقب الغواصين، منهكين، يجمعون المحار طوال اليوم ليفلقوه في صبيحة اليوم التالي بحثاً عن لؤلؤة غالية لا تأتي. عملهم مهلك يا أبي.
لقمة العيش مرة يا ولدي».
تحمل هذه الأحداث كلها انزياحات واستبدالات قيمية، ستحول حقيقة المجتمعات وتقودها إلى حداثة، مجزوءة طبعاً، ويرتبط ذلك كله بمتعلقات ما بعد الكولونيالية التي يشير إليها النص عبر حضور الاستعمار الإنكليزي بمندوبيه السامين، وما رافقه من رحلات البحارة، والاكتشافات الجغرافية، والاهتمام بالأنثروبولوجية الثقافية للشعوب المستعمَرة، وتتمثل هنا بشخصية القبطان الأسترالي آلن فاليرز «هو قبطان طاف العالم بمركب كبير يعمل بالمحركات، وهو كاتب ومصور»، الذي يصاحب النجدي في رحلته، فيظهر صراع خفي من وراء علاقة ودية تصنعها خبرة البحر والمعرفة بأسراره، واحترام المستعمرين لإمكانيات الأصلانيين، بسبب احترام هؤلاء لهويتهم وشخصيتهم الوطنية، وتاريخهم المتجذر في الخليج العربي، والذي ظل الأسترالي يراه بعين رومانتيكية كما فعل معظم الرحالة الاستعماريين، إذ «ظل مسكوناً بمعرفة قصص وأخبار ومغامرات الملاحين العرب». «المراكب العربية هي آخر ما تبقى من سحر الشرق القديم». ولا بد هنا من الكلام عن الصراع بين التقليد والحداثة، من خلال الاعتداد بالحرفة التقليدية، والفن، والطقوس الخاصة، في مواجهة تذويبها بالحداثة، وقيم الإمبريالية، ومفرزاتها كالعولمة والكوزموبوليتانية.
تعلو الدراما في النص مع المشاهد الأخيرة للصراع مع العاصفة، الذي يتسق مع صراع القيم: فـ»البحر لا يصادق أحداً» كما يعلمنا النوخذة الأدب ناصر، لذا نعيش لحظات درامية عاشها أفرادها الحقيقيون في ساعات قاسية، حين جاءت العاصفة، وانقلبت السفينة، وسنتابع علي النجدي وصاحبيه عبد الوهاب وأخاه سليمان في عرض البحر، نتعب معهم، ونسبح معهم، ونستريح إلى خشبة طافية أو صندوق معهم، ونبرد معهم، وننتظر وندعو انتهاء العاصفة، وقلوبنا مع عبد الوهاب الذي يبدو الأضعف، ونبتعد عن العلامة البحرية معهم، فنخسر عبد الوهاب، لكن سيبقى أحد ما ليحكي الحكاية، كما يقول هاملت، حكاية إنقاذ أطفال ورجال ونساء، وحكاية غرق البحارة، والغترة، والمسجلة بكاسيت عوض الدوخي، مثلما غرقت الكويت القديمة بطقوسها البحرية في عالم الحداثة والنفط.
حول طالب الرفاعي في «النجدي» البحر على اتساعه إلى (جحر ثقافي)، حسب كلود ليفي شتراوس، أي ملجأ يتحصن به أبناء الثقافة في وجه طغيان الحضارة، أو الحداثة، أو ثقافة المستعمِر، إذ لم يكن صراع النوخذة علي النجدي مع العاصفة وحسب، بل مع التغيير السريع والمفاجئ لقيم البحر التاريخية: «إن الله فتح للكويتيين باب رزق كبير وخير وفير. ما عادوا مضطرين لركوب البحر ومواجهة الأهوال، جلست هناك خلف الدفة أتجرع ألمي. تحسرت على كويت الغوص والسفر، وتحسرت على علي النجدي النوخذة، وعلى البحر». يبقى النجدي فرداً إشكالياً إلى النهاية، يعترف بانهزامه أمام حركة المجتمع، لكنه لا يستسلم لوحش الحداثة، مما يحوله إلى ما يشبه أبطال الملاحم التراجيديين، الذين تنفطر قلوبهم لمصير أنساقهم الثقافية، بعد أن فعلوا ما بوسعهم، ولكن حركة التاريخ كانت أمضى منهم.
٭ روائية وأكاديمية سورية
شهلا العجيلي