يستخدم الروائي اللبناني جبّور الدويهي، تاريخ الطباعة والمطابع في لبنان، كواحد من المحرّكات الرئيسية في روايته الأحدث «طًبِع في بيروت» الصادرة عن دار الساقي للنشر. معلومات وشذرات تاريخية منتخبة يبثّها الدويهي بطول روايته، في معرض حديثه عن مطبعة «كرم إخوان 1908» التي يلتحق فريد أبو شَعر، بطل الرواية، للعمل فيها كمصحح لغوي.
يغزل الدويهي هذا الرافد المعرفي، بالدراما، حيث يدخل فريد أبو شعر، الذي خط كتاباً سماه «الكتاب»، إلى سوق النشر، باحثاً عن منفذ ينشر عبره ذلك الكتاب، فتقوده خطواته للتورط في لعبة كبيرة جداً، أكبر منه، وعابرة للقارات، عندما يجد نفسه متهماً في قضية دولية حول طباعة العملة المزوّرة من فئة العشرين يورو. زار أبو شعر مطبعة كرم إخوان لطباعة كتابه، وهناك، عُرِض عليه أن يتولى مهمة التدقيق اللغوي، وتم إرجاء نشر كتابه. وافق أبو شعر على العرض، وتحوّل من كاتب إلى موظف في المطبعة، حيث باتت صناعة الكتب عبئاً على أصحاب المطابع، مقارنة بطباعة المنشورات الإعلانية والانتخابية، وبيانات المليشيات المسلّحة، وحتى طباعة الكتب المدرسية.
علاقة عابرة تجمع بين أبو شعر، والسيدة بيرسيفون، زوجة عبد الله كرم مالك المطبعة ومديرها، ورغم أن تلك العلاقة لم تُكتشف ولم تنتشر، إلا أن فريد أبو شعر دفع ثمنها كاملاً، عندما تم الزج به في السجن بعدما أدين بتهمة تزوير العملة. غير أن الحقيقة هنا هي أن التزوير كان يتم بمعرفة عائلة عبدالله كرم، وبالتعاون مع عائلة حسين الصادق، وباستخدام ماكينة طباعة هايدلبرغ بأحدث طراز.
وعلى امتداد 36 فصلاً، يحكي الدويهي، الصدفة الكبرى التي تحوّل أبو شعر من خلالها من مجرد ساع لنشر كتاب، إلى شخص يقضي حكماً بالحبس مدة ثلاث سنوات. كذلك يقدم الدويهي، شذرات لشخصيات كثيرة، وقصص فرعية تنبت جميعها من جذع الحكاية الرئيسية، فتتحول تلك الشخصيات إلى ما يشبه شظايا مرآة مهشّمة، تقدم انعكاسات صغيرة وصوراً مبتورة، من المجتمع اللبناني، ومن تاريخ صناعة النشر في هذا البلد الذي كان أول من أدخل المطابع إلى الشرق الأوسط والبلدان العربية.
يقدم الدويهي تلك الحكاية الرئيسية وحكاياتها الفرعية عبر لغة متباينة، تراوح أحياناً بين التقريري والوصفي المحايد، لغة كافية لتطوير الأحداث ورصد النقلات الدرامية. وعلى الجانب الآخر، ثمة جمل طويلة حكائية، لا تقدم أحداثاً، بقدر ما تصبغ الرواية بروح خاصة، ليست شعرية، لكنها تبدو كذلك، تبدو ناعسة وكلاسيكية وذات لون حائل: «كانت الردهة تنعم هذه الليلة بهدوء تلمع فيه إشارات ملوّنة تبقى مضاءة في الآلات الحديثة ويقطعه صفير الكهرباء وأزيز محركات التهوية التي لا تنام، بينما ساكسفون جون كولتران مايزال يصل إلى مسامعها مصحوباً بنباح شبان سكارى في وجه القمر الكامل الساطع فوق المدينة وهي تنزل درج الحجر حافية القدمين». وفي هذه الفقرة لم يحتج الدويهي إلى علامات ترقيمية كثيرة، فقط فاصلة واحدة.
الشاعر الساذج يتحّول إلى مجرم
تنبت الروايات الجيدة من أرض الشك، أرض البين بين، بينما تنبت الملاحم من أرض الأبيض والأسود، الانتصار أو الهزيمة، الخير أو الشر. وفي رواية «طُبِع في بيروت»، تبدو الأمور كلها بين بين، هي سيرة حياة، فريد أبو شعر الأخ الأصغر المدلل الذي يعيش مع أمه، يراوح بين موهبته الأدبية ووسامته وإيمانه اللامحدود بقيمة كتاباته، وبين سذاجته المفرطة وخبراته المحدودة، طاووس أعرج، فالشاب الذي يتفاخر بأنه «وُلِد في لغة تغلب» تدليلاً على فصاحته ومعرفته باللغة، هو نفسه من ستقوده بعض الكلمات، إلى مصير أسود، وحتى المصير الأسود نفسه يبدو عبثياً تماماً، ففريد أبو شعر تحوّل إلى حكّاء الزنزانة ومؤنس المحابيس، وخرج منها بأفكار تملأ رأسه عن كونه عاشقا مغوارا لكن خصمه أوقع به.
شخصية عبدالله كرم أو (دودول)، شخصية رمادية كذلك، ضعيف بجسده المفتت إثر انفجار شوّه وجهه. وعنيد في أعماله وتجارته السرّية طباعة العملة المزوّرة. بيرسيفون أيضاً، وأيّوب صاحب ماخور لوس لاتينوس، عربيد طيّب. أما كيف صار الشاعر والمدقق اللغوي متهماً، فقد حدث أن وقع مخطوط كتابه، أو الدفتر الأحمر، في يد السيدة بيرسيفون التي عهدت إلى المعلم أنيس الحلواني بطباعة نسخة واحدة منه، مطبوعة على أفخم ورق، ومغلّفة بشكل مميز، ووضعت تلك النسخة على مكتب فريد، وهذا الأخير شعر أن حلمه تحقق أخيراً. واحتفظ بتلك النسخة المطبوعة من كتابه والتي لا يعرف من طبعها. ومن جهة أخرى كانت شرطة الأموال تواصل مجهوداتها لحصر المطابع التي تمتلك آلة طباعة متطورة تمكنها من طباعة عملة مزورة عالية الجودة يصعب تمييزها عن الأصلية، وهكذا تم التوصل إلى مطبعة كرم إخوان، بعد أن وصلت رسالة مجهولة المصدر إلى المحقق الهولندي الذي يتولى التحقيق في القضية. وهكذا تحول كتاب فريد أبو شعر إلى دليل إدانة له، لأن الورق المستخدم فيه هو الورق المستخدم في طباعة أوراق البنكنوت.
بيروت.. مدينة رمادية
كما ترد في العنوان، تحضر بيروت بكثافة في رواية جبور الدويهي، ويحضر معها تاريخ طويل للمدينة، إبان الحكم العثماني، وحتى الوقت الحاضر، إذ تتنقل مطبعة كرم إخوان بين الأحياء والضواحي، وفقاً لما تؤول له ظروف المدينة.
«الأشياء ليست كما تبدو في المرآة»، جملة ترد على لسان إحدى شخصيات «طُبِع في بيروت»، إشارة إلى اختلاف أحجام الأشياء في الواقع عن مرآة السيارة، وهذه الجملة تكاد تصف حضور المدينة في الرواية، وحتى حال عائلة آل كرم ومطبعتهم، تلك التي طبعت الدستور اللبناني ذات يوم، وظلت لسنوات تتمتع بسمعة جيدة، لكن انتهى بها الأمر إلى أن يحرقها أصحابها، تخلّصاً من آثار جريمتهم، وكذلك للحصول على مبلغ التأمين الكبير. وبقدر حضور التوصيف البصري، ومشهدية السرد في مواضع عديدة، جاء تناقض هذه الرؤية الواضحة المحددة، مع رمادية الشخصيات، ليصنع أجواءً ضبابية كابية حول الأحداث، يساهم في ذلك الإيقاع الهادئ والمتشعّب للسرد. هكذا حملت «طُبِع في بيروت» هذه الروح الرمادية، التي لم تنصف أحداً ولا تدينه، بقدر ما عرضت حياة أولئك الأبطال ومدينتهم، بيروت.
٭ روائي مصري
أحمد مجدي همام