ثمة سردية يتم تداولها بثقة مفرطة، بأن التطرف هو تعبير عن مشكلة «ثقافية»، وبالتالي «هوياتية» مرتبطة بالإسلام، وبالتالي هو منتج إسلامي بحت؛ أو بوصفه معطى «أيديولوجية» يرتبط بالحركات الإسلاموية، أي ما يعرف بالإسلام السياسي، وأن السلفية بنسختها الجهادية، كانت النتيجة المنطقية في هذا السياق، بمعزل عن السياقات السياسية والاجتماعية المنتجة له.
لا تقتصر هذه السردية على الأنظمة السياسية التي واجهت وتواجه الإسلاميين في مواجهة مفتوحة، بل ينخرط جمع كبير من «المثقفين» العلمانيين العرب في التنظير لهذه السردية، والترويج لها، ليشكلوا من حيث يعلمون او لا يعلمون، الدعامة الفكرية التي تستند اليها الانظمة في شرعنة القمع الذي يمارسه على الإسلامويين، وعلى غيرهم كناتج غير عرضي! لينخرط الجميع في خطاب كراهية مضاد، لخطاب الكراهية الذي يعتمده الإسلامويون المتطرفون، خطاب لا يرى من إمكانية لاستعادة التعايش سوى استئصال الآخر.
إن أي مقاربة عقلانية تضع نفسها خارج إطار هذا الصراع، ستجد ان ثمة راديكالية تنتجها مجتمعاتنا، يتم التعبير عنها بأدوات أيديولوجية مختلفة. ومن ثم ليست الإسلاموية سوى تعبير عن هذه الراديكالية، في سياق تاريخي. تماما كما كان اليسار في لحظة تاريخية أخرى، الأكثر تعبيرا عن هذه الراديكالية. وكان اليمين كذلك في لحظة أخرى.
في العراق، على سبيل المثال، كانت الراديكالية اسلوب حياة في عراق ما بعد 1958، من دون ان يعني ذلك انها لم تكن حاضرة قبل هذا التاريخ. ولكن هذه اللحظة كانت حاسمة تماما في أن يحكم «العنف» المشرعن مسار الصراع السياسي بعدها: من لحظة قتل العائلة المالكة؛ إلى سحل رموز النظام الملكي في شوارع بغداد، وصولا إلى الشيوعيين وحبالهم المشرعة للإعدام: «ماكو = لا إمكانية لحصول مؤامرة، تصير والحبال موجودة»، وصولا إلى الحرس القومي البعثي ومعتقلاته التي شهدت بشاعات لا يمكن تصورها. صحيح ان البعثيين في مرحلة لاحقة قد اوصلوا هذا العنف إلى حدوده العليا، ولكن بشاعات ما بعد 2003 أثبتت أن مسار العنف لا يعرف النكوص او التراجع!
لقد آمنت اغلب النخب السياسية العراقية بالعنف، ومارسته، بوصفه نضالا مشروعا، ومن ثم فان التطرف نفسه كان تعبيرا «سياسيا» في سياق صراع سياسي عنيف، أكثر منه تعبيرا عن صراع اجتماعي، أي بوصفه تعبيرا عن انعدام ثقافة التعايش وقبول الآخر! من هنا لا بد من التمييز الدقيق بين العوامل الثقافية المغذية للتطرف، والتي يمكن ان تبقى في حدود الخطاب/ الفكر من دون ان تتحول إلى فعل وممارسة من جهة، وبين العوامل السياسية التي تحول هذا التطرف إلى فعل سياسي.
على أن الاهم هنا، ان الإسلامويين كانوا مجرد هامش على هذا المتن. ففي الاطار السني، ظل الإخوان المسلمون في العراق، وواجهتهم الحزبية «الحزب الإسلامي»، الذي استطاع تأطير نفسه قانونيا عام 1960 لمدة قصيرة، بعيدين تماما عن اعتماد العنف او استخدامه. ويصدق الأمر نفسه على السلفيين العراقيين، الذين حاول بعضهم بداية الستينيات ايجاد صيغة تنظيمية لهم عبر إنشاء «جماعة الموحدين»، إلا انهم رفضوا مبدأ استخدام العنف رفضا قاطعا. وعلى الرغم من ظهور بعض الافكار داخل الحركة السلفية نهاية السبعينيات لتبني العنف، بتأثير من تطور بعض الجماعات السلفية في مصر، إلا أنها ظلت اجتهادا لأفراد وليس عملا منظما. ولم يكن لدينا سوى مجموعة من الحوادث الفردية المعزولة التي حاولت استخدام العنف بطريقة بدائية وارتجالية حتى العام 2003. أما الصوفيون فإنهم لم يعمدوا مطلقا إلى المشاركة في الصراع السياسي، ولم تكن لهم أية تنظيمات سياسية، على الأقل حتى العام 2003. ولكن ما يصدق على السنة العرب لا يصدق على السنة الكرد، بسبب من خصوصية المسألة الكردية، وسياق مواجهتها مع بغداد. فقد انخرط الكثير من الصوفيين والسلفيين الكرد في اعتماد العنف، من خلال تحالفهم مع الحركات القومية الكردية المسلحة، وعلى الرغم من أن الاخوان المسلمين الكرد ظلوا متحفظين على هذا الامر في البداية، إلا انهم اضطروا إلى الانخراط فيه في النهاية.
شيعيا، لم يعمد التنظيم الشيعي الإسلاموي الوحيد الذي تشكل نهاية الخمسينيات، وهو حزب الدعوة، إلى استخدام العنف مطلقا في البداية، ولكنه عمد في النهاية إلى اللجوء اليه، وإن بشكل محدود ولم يشكل ظاهرة.
إن هذا السياق التاريخي يكشف بوضوح عن ان محاولة الربط الميكانيكي بين الإسلامويين والعنف التي يعتمدها البعض، إما محاولة متعمدة لها اهدافها السياسية، أو انها نتاج جهل بهذا السياق التاريخي. في الوقت نفسه يكشف التحول إلى العنف عند الكثير من الإسلامويين بعد عام 2003، انه تحول مرتبط بالمتغيرات التي حصلت بعد هذا التاريخ، وليس نتاجا لمعطى «هوياتي» داخل هذه الحركات.
وهذه المتغيرات وحدها هي التي يمكن لها ان تفسر كيف أن السلفية في العراق، التي فشلت على مدى ما يقرب من قرن من ان تتحول إلى حركة اجتماعية أو سياسية، وظلت محصورة في بعض الجوامع والمساجد، تحولت خلال 10 سنوات فقط إلى ظاهرة، بداية مع تنظيم الجهاد في بلاد الرافدين التي تشكل في نهاية عام 2003، إلى تنظيم الدولة/ داعش ودولته الإسلامية، وصولا إلى إعلان الخلافة.
على أن من المهم الانتباه إلى أنه في ظل هذا التحول، لم تستطع التنظيمات السلفية الجهادية العراقية أن تنتج أي تنظير فكري يوازي انتشارهم الأفقي، وفعاليتهم العسكرية، كما لم تتمكن من استقطاب من يمكن تسميته بعالم دين معترف به على الأقل بأنه كذلك! على الرغم من أننا لا نستطيع إن نصف تنظيم الدولة/ داعش إلا على أنه تنظيم عراقي في نهاية المطاف! أي انه نتاج الازمة العراقية ما بعد 2003.
إن دراسة وتحليل الحركات العنفية، بعيدا عن التبسيط، والربط الميكانيكي، والتحيزات الإيديولوجية، يتطلب دراسة السياق التاريخي التي ظهرت فيه هذه الحركات، والتحولات الداخلية التي شكلتها، والمتغيرات الخارجية التي حكمتها، فهذه المقاربة وحدها ستمكننا من الفهم الدقيق لها بعيدا عن التمظهرات الخادعة التي يراد لنا الانشغال بها. كما لا بد من الالتفات إلى البنى الثقافية والاجتماعية المنتجة للتطرف والعنف ككل، وكيفية التعاطي معها. فضلا عن فهم العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تحول هذه البنى من نطاق الخطاب/ الفكر، إلى نطاق الفعل، والسياقات التي تساعد في عملية التحول هذه.
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي