على خلفية الحرب السورية تقدم الروائية مها حسن نوعا جديدا من أمراض الحنين، عندما تقبل الذاكرة بيانات جديدة وترفض معالجتها إلا بعد أن تمزجها أو تستبدلها كليا بمستودعها من الصور القديمة، الأمر يشبه نوعا من معاندة دارات الاستعادة العصبية المربوطة بالدماغ، ورفضا مبطنا للبقاء في مكان بديل، تقدم الكاتبة حالة هوس بالمكان يمنع المصاب به من التأقلم، حيث يرفض المكان «المرجع» أن يغادر ساحة الإدراك ويتمادى بتقدم نفسه دائما مكانا وحيدا ونهائيا كمتلازمة السمك والماء.
لا ترتبط الحالة بشكل مباشر بالحرب فهي مجرد لواعج داخلية او مطارحات مع الذات تنتاب بطلة الرواية، ثم تأتي الكاتبة لتربط بين علم نفس الحنين ويوميات العنف ووحشية الحرب، لا توجه الحرب سلوك البطلة ولا تؤثر بحالتها ولكنها توفر لها الدوافع لتبرر ما تقوم به وتهيئ لها مناخات ممارسة الحنين.
تعطي الكاتبة فرصة لبطلتها لتتفاعل مع المكان الجديد وتخلق لها محفزات للبقاء ومثبطات عن العودة، من ضمنها منزل في باريس ورصيد بنكي يقارب المئة وخمسين ألف يورو لكن سارة بطلة الرواية تتأبط أول فرصة حقيقة للعودة وتغادر المخمل الباريسي المترف إلى حلب، حيث الأتون الذي لا يهدأ أواره، ولا تبرر الكاتبة العودة إلى ساحة الحرب إلا بالضغط النفسي الذي يعاود البطلة كنوبات «الكريزا».
رغم الأمان المنتشر في باريس الذي تقدمه الرواية على شكل محطات مترو هادئة، وجيران حذرين ولكن لطفاء، والكثير من الأصدقاء المستعدين أن يفتحوا آذانهم للاستماع من دون عرض النصائح، ترفض سارة إلا أن تستحضر حلب بكل ثيماتها التاريخية والجغرافية المعروفة، تنتقي من باريس المترو بعجلاته وحجراته ومحطاته وحتى ركابة لتعود به ليستقر تحت بيوت حلب.
تحتل باريس الصورة البصرية ولكن تفاصيل حلب التي تشكل جينا منفصلا في خلايا سارة يرفض أن يبقى خاملا ويلج مستعيدا الماضي مغطيا جزءا مهما من صورة باريس، تُستدعى سارة على نحو غامض من خالتها لتأتي إليها في باريس تنتقيها من بين أخوتها بالاسم لتشهد آخر أيامها ولتُسمعها تفاصيل ذات طبيعة سرية يجب أن تُنقل بشكل شخصي، بدون تفاصيل السفر وتعقديات الجوازات، نجد سارة في باريس تعايش خالتها وهي تلفظ آخر أنفاسها تاركة وراءها ثروة من السرد الحكائي لتاريخ حياتها وتفاصيل هروبها المثيرة من دمشق إلى باريس على شرائط سماعية لا يمكن معرفة ما فيها قبل أن تغادر الخالة هذا العالم.
تبدو سارة واقفة على تخوم الثورة تشاهد المظاهرات وتشترك في بعضها، من دون خلفية سياسية كافية لتجد نفسها في باريس وسط غموض الخالة التي خُلقت فجأة من رسالة سريعة، من الملجأ الباريسي وباستماع صبور إلى أشرطة مسجلة تركتها الخالة أمينة، تعرف سارة بأنها كانت مجرد قشة في مهب إعصار عنيف، والخالة أم تركت ابنتها وهي صغيرة لتمارس هواية تحولت إلى شغف أطاح بزواجها وبعائلتها وبحياتها في دمشق، لا تبدو أمينة مقتنعة كليا بنجاحها الفني في باريس فهي تعترف بلوعة أن ارتباطها بابنتها التي تركتها رضيعة لم ينفصم، وها هي تعبر عن قوة هذا الرابط بتوريثها كل ما بقي لديها، هروب أمينة وضع على وليد عبء زواج يغطي به زواجه الأول وكلف عادل حياته كلها فقد تركته هدهد لتتزوج زوج شقيقتها الهاربة، تنهار بضع قصص حب دفعة واحدة لتعيش سارة، فتنمو في حلب بحضانة الأم البديلة هدهد، إلى أن تأتيها الدعوة اللغز. كل شيء في الرواية يدور حول سارة التي تكتشف مرض الحنين عند وصولها إلى باريس، الحياة في دمشق وحلب وباريس مكرسة لتعطي لسارة الشخصية الروائية المطلوبة، أنثى مسرعة بهرمونات كسولة تركض لتلاحق مواعيدها وليس صدفة أن يكون مترو باريس وسيلتها الوحيدة، تبرز سارة حتى على أحداث الحرب والثورة تقف شاهدة على شخصيات المعارضة وتعبر عن سخطها من كل شيء من دون أن يكون لهذا الموقف تداخلا مؤثرا على حالتها، ثم كما يتوقع القارئ تعود سارة الى مربعها الأول لتتخلص من حالات الأحلام النهارية المطبقة على صدرها على شكل صورة حلب، يأتي الرجوع وكأنه علاج لداء مزمن أكثر منه تلبية وطنية أو إخلاصا للمكان.
تلجأ الكاتبة، خاصة في القسم الثاني من الرواية إلى التراجيديا الموجعة، وتقدم نماذج مازوكية تحت عناوين الإخلاص و التضحية وتعتمد في آخر مشاهدها على الميلودراما لتقدم صورة شديدة الألم للقاء لم يحصل بين عادل وهدهد، كانت قذيفة الحرب حكما بعدم لقاء حبيبين، الصور النفسية للشخصيات كانت طاغية على أحداث الحرب، حتى تكاد الحرب كلها تتحول سايكولوجيا في وسط بحر من الشخصيات التي تصارع نفسها ولا تكف عن الهروب من الحاضر وكأنه خطيئة، تعيش كل الشخصيات ماضيها محاولة توقيف الزمن عند لحظة بعينها، رغم الحرب وواقعية الخراب. الحرب ليست هدفا روائيا فالمتن السردي يعتمد على سارة وما يدور بداخلها مع التعريج قليلا على الشخصيات الفائقة الإخلاص، أما الهامش فتحتله الحرب، ورغم مساحته الروائية الكبيرة فهو يبقى هامشا.
كاتب سوري
محمد جميل يعقوب