مقاطع حيّة من تراث حربي

حجم الخط
0

بعد نحو 35 سنة عدنا لمشاهدة فيلم «بيروت اللقاء» لبرهان علوية، رغم الفاصل الطويل في الزمن لم نكن، ونحن هناك في صالة العرض الصغيرة، إزاء أن نمتحن ذاكرتنا في ما أبقته أو أهملته من الفيلم. ذاك أننا لم نكن قد نسينا بعد فكرته، أو الشاب حيدر (هيثم الأمين) أو زينة (نادين عاقوري) وكلاهما أدّى بطولته السينمائية اليتيمة، حيث لم يعد أيّ منهما إلى الظهور في الأفلام، كما ما زلنا نتذكّر مشهد ازدحام السيارات الطويل الذي أخّر حيدر عن ملاقاة حبيبته، وشريطي التسجيل اللذين قضى ليلته لملئهما بالكلام المتعذر قوله مواجهةً، بسبب الحرب وتقطّع الطرق وتعطّل الاتصالات. كان قصدنا من مشاهدة العرض من جديد هو انقطاع الفيلم عنا طيلة هذه السنوات، رغم ما تحفل به بيروت من استعادات لعروض سابقة، ثم اشتياقنا إلى برهان علوية مخرجه، ثم إلى ملاقاة أحمد بيضون (كاتب السيناريو، اليتيم أيضا في ما أحسب) وهيثم الأمين، وقد ذُكر في الدعوة أنهما سيكونان هناك في العرض، وسيتكلمان عن الفيلم بعد عرضه.
«لم يتغيّر علينا شيء» علّق أحد الحاضرين على مشهد رفع أكوام النفايات من زقاق بين البيوت في المشاهد الأولى من الفيلم. كان هذا مشهدا مألوفا آنذاك، وقد استمرّ كذلك طيلة سنوات الحرب التي يصعب تعيينها بالتمام، طالما أن النفير المعلن عن انتهائها لم يفلح في إيقافها. وها هي النفايات الجديدة، نفايات هذه الأيام، تشهد على ذلك. لكن هناك أشياء كثيرة تمكّنا من تركها هناك، مثل الخلاء التام من السيارات، كما من المارّة، في عقدة الطرق الواسعة التي ينتهي عندها جسر الرينغ. ومما تركناه هناك أيضا إقفال طريق المتحف بحمولات الرمل والتراب، واختلاف الناس بين هنا وهناك، والخطوط الهاتفية التي قد تعمل وقد لا تعمل، وحداثة خراب بيروت وتبدّل مشاهدها حيث لم يكن النازحون إليها قد استقرّوا في بيوتها بعد. ومن ذلك أيضا تعدّيات المسلّحين الزعران على الساكنين وعلى المارّة في الطرقات، والمطار أيضا، مطار بيروت الذي ونحن نعود إلى مشاهدة الفيلم، رحنا نتساءل ونحن في الصالة مَن منا ما زال يتذكّر إن كان المطار هكذا على شاكلته هذه.
ثم هناك الكلام الذي هو أكثر ما تتمخّض عنه الأمكنة، ذاك الذي يتعدّى المحاورات المباشرة ليصل إلى اعترافات وتأملات يعمل كل من بطل الفيلم وبطلته على تسجيلها في الأشرطة. إنه كلام ذلك الزمن، أو ما يمكن أن يكون كلام ذلك الزمن. آنذاك، في العرض الأول للفيلم، سنة 1981 ربما، فاتتنا على الأرجح أمور كثيرة من الفيلم، إذ كنا آنذاك في داخل السينما، وهي سينما الحمرا، كأننا ما زلنا في خارجها. أي أننا كنا في عالم الفيلم ذاته، موجودين، شأن أبطاله، في مَشاهده نتجوّل فيها مثلما يتجوّلون ونشعر بمرارة حيدر حين يخذله انقطاع الاتصال التلفوني أو يحول انقطاع السير بينه وبين لقائه محبوبته. فيلم «بيروت اللقاء» ردّنا إلى ذلك الزمن. أعادنا إليه قطعة حيّة حيث كان من الصعب على أي شريط وثائقي القيام بذلك. لقد وصلَنا الفيلم بماضينا ذاك، ولعلّه فعل شيئا مماثلا، وإن على نحو مختلف، للحاضرين الأصغر عمرا في الصالة، إذ كانت تقدَّم لهم بيروت حيّة عن زمن لم يجهدوا كثيرا في معرفته.
كل ما رأيناه في الفيلم هو صور حيّة من شوارع بيروت وأحيائها ومطارها، قال أحمد بيضون وهيثم الأمين في النقاش الذي ابتدآه عند نهاية العرض. شيء مثل إنزال رواية على شريط وثائقي طويل. قال بيضون أيضا إنه لم يحبّ الفيلم في البداية، وقد لزمه وقتا، ومزيدا من المشاهدة، لكي يعود فيتعلّق به. كثيرون ممن كانوا حاضرين في هذا العرض الأخير رأوا الفيلم وقد أكسبه الزمن أهمية إضافية. قد يرجع ذلك إلى أصالة فيه كان عليهم أن ينتظروا اختبارها، أو ربما كان عليهم الخروج من الاستنتاجات السريعة في نقد الأفلام، تلك التي يجري أكثرها في تجمّع المشاهدين أمام باب الخروج، ومنها مثلا أن يقولوا إن الفيلم مملّ وإن الكلام فيه أكثر مما يجب.. إلخ.
«كانت تلك حربا ناعمة» قال كاتب سوري عند افتتاح النقاش، مذكّرا هكذا بذروة الحرب السورية الأخيرة، حيث أعلن في ذلك النهار عن مجزرة جديدة حدثت في حلب. «لم تكن حرب لبنان ناعمة هكذا على الدوام» أجاب، متمتما، واحد من الحاضرين، إذ لم تكن المعارك ولا المجازر قائمة حين تصوير الفيلم. وقد تقصّد السيناريو ذلك، أي أن تظهر الحرب دون سلاحها وعنفها المباشر. ومنهم من قال هنا في الصالة إنها، هنا في لبنان، كانت مقدّمة ستتبعها حروب في المنطقة… هذا أيضا ما يجعل الفيلم رائدا ومعيارا في التأريخ لهذه الحقبة من حروبنا.
بمبادرة من «ناد لكلّ الناس» و»المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت» عرض مساء 30 تشرين الثاني/نوفمبر فيلم برهان علوية «بيروت اللقاء».

٭ روائي لبناني

مقاطع حيّة من تراث حربي

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية