«200 متر»… الطبيعة الصامتة كفيلم طريق فلسطيني

حجم الخط
0

ينطلق الحديث عن هذا الفيلم من زاويتَين، الأولى أنه (شكلاً فقط) «فيلم طريق» وهو بالتالي فيلم انتقالٍ مكاني وزماني وشخصياتي. الثانية أن هذه العناصر الثلاثة (المكان والزمان والشخصيات) تكون في ظروف غير عادية، أو – كما سنرى- هي معاكسة للعادية، وذلك لسياقها الفلسطيني، ما يجعل فكرة «فيلم الطريق» في «200 متر» جديرة بالبحث.
فيلم أمين نايفة الأول، هذا، أحالنا من اسمه إلى موضوعه وحبكته، وحتى الدقيقة الأخيرة منه، إلى علاقة المكان والزمان فيه ببعضهما في السياق الفلسطيني، وهي علاقة معاكسة لغيرها في سياقات عادية. فليست المئتا متر في فلسطين مثلها خارجها، وليس، بالتالي، «فيلمُ الطريق» في فلسطين مثله في غيرها، فلا يكون الطريق انتقالاً مكانياً بالدرجة الأولى، بل زمانياً، ليكون الانتقال بين نقطتَين على جانبَي الجدار، محسوباً زمانياً، ولا معنى للحساب المكاني هنا. تكون، إذن، علاقة المكان بالزمان، في فلسطين، معكوسة عنها خارجَها، فالانتقال من مدينة طولكرم إلى الطرف الآخر، مصوراً في فيلم، يكون فيلمَ طريق يُعبَر زمانياً، على طول نهار تبدأه الشخصية الرئيسية (مصطفى) صباحاً منهيةً إياه عند النقطة الأخرى من المئتَي متر، ليلاً.
بدا الفيلم، في ربعه الأول، فيلماً آخر عن فلسطين، ملبساً قصتَه الثوبَ ذاته، المألوف المتكرر في أفلام عديدة، حيث الحاجز والجدار، ومسألةٌ إنسانية تلوح بينهما. ليست هذه مكروهة بل مكررة. هذا واحد من واقع فئة من الفلسطينيين، وتصويرُه في فيلم أمرٌ مستحَب، لكن التكرار فيه يُدخله في دوامة الرتابة واستسهال التوقع. تجنبُ ذلك ليس سهلاً، لا بد له من تطورٍ للحبكة المكتوبة، وإخراجٍ جيد وأداءٍ للشخصيات تجعل للسياق الفلسطيني والمألوف والمتكرر، حضوراً مبرراً، بل طبيعياً للقصة التي نشاهدها، وهذا ما كان في فيلم نايفة، إذ دخلت القصة في سلسلة تطورات متتابعة، تتفاوت جودةُ كل منها وضرورةُ أحدها إلى الآخر، وكان ربطها، كلها، في شخصية واحدة، هي الرئيسية، قد سهل المهمة على كاتب الفيلم ومخرجه.

تسهل، لذلك، محوَرةُ الفيلم حول شخصية واحدة، والفيلم أساساً رحلةُ هذه الشخصية الزمانية مضموناً والمكانية شكلاً، ضمن المئتَي متر، ضمن النقطتَين المتقابلتَين، المفصولتَين بالجدار، واللازم للانتقال بينهما، الالتفاف والهرب والقفز والمرور بحواجز، كأن الطريق بين النقطتَين، واحدة في أراضي عام 48 والأخرى في أراضي عام 67، كأن الشخص مرّ على كامل البلاد زمانا كما هو مكان.

في الفيلم مكان داخل آخر، الداخلي منهما ثابت والخارجي متحرك، الداخلي هو السيارة، المكان المغلق، الذي تنتقل فيه الشخصية الرئيسية عبر المكان الخارجي، المكان المفتوح، الذي، ولخصوصية السياق الفلسطيني دائماً، لا يقل انغلاقاً وضيقاً عن الداخلي، وذلك بالمعنى المجازي لا المادي.

أعود إلى الفكرة الأساسية في هذه الأسطر، وهي تَعاكس الحالة الفلسطينية مع الحالة «العادية» لما يمكن أن يكونه الطريق في فيلم سينمائي. والطريق هنا هو الانتقال، هو علاقة الزمان بالمكان، الأول هنا استغرق نهاراً بكامله، الأخير هنا كان 200 متر تحولت، بفعل الاحتلال، وبالتالي استثنائية الحالة الفلسطينية، إلى تجوال عبثي وطويل، لغاية واحدة، هي الانتقال بين الطرفَين المحتلين من فلسطين.
في الفيلم مكان داخل آخر، الداخلي منهما ثابت والخارجي متحرك، الداخلي هو السيارة، المكان المغلق، الذي تنتقل فيه الشخصية الرئيسية عبر المكان الخارجي، المكان المفتوح، الذي، ولخصوصية السياق الفلسطيني دائماً، لا يقل انغلاقاً وضيقاً عن الداخلي، وذلك بالمعنى المجازي لا المادي. نحن هنا، إذن، أمام مشهد واحد ثابت ممتد زمانياً، لا مكانياً، أقرب ليكون «طبيعة صامتة»، كأن الزمان يمرّ، والانتقال عبره، بين الأمكنة المغلقة، قد لا يُلاحظ سوى بالعتمة التي تحل في نهايات الفيلم، وبتطور الأحداث الذي يُلهي المُشاهد عن تقدم الزمان وسكون المكان، كأننا أمام لوحة واحدة (إطار واحد) أثرُ الزمان فيها يكون بتحرك الضوء عليها، نهاراً حتى تعتم ليلاً، في مكان واحد بطول مادي هو 200 متر، ومجازي هو الانتقال العبثي بين زمانَين: 1948 و1967.
حول ذلك كتب الفرنسي جيل دولوز في «سينما: الصورة ـ الزمن» أن «الطبيعة الصامتة هي الزمن، لأن كل ما يتغير هو داخل الزمن» وبذلك ـ يقول – تتمايز الصورة السينمائية (المتحركة) عن الصورة الفوتوغرافية (الثابتة)، حيث تتقدم الصورة ضمن الزمان. وذلك في «200 متر» يكون ثبات الحال في المكانَين الداخلي والخارجي، ضمن الصورة المتحركة، ضمن مشوار، أو طريق، يكون في الزمان وليس المكان، وكل ما يتغير – التطور في القصة تحديداً – يكون داخل الزمان حصراً. يكون بذلك، «فيلم الطريق» الفلسطيني هو انتقالٌ في الزمان أكثر منه انتقالا في المكان، المحدود والمغلق بطبقتَيه والذي حدده اسمُ الفيلم بمئتَي متر. ومكان البداية في الفيلم، مشهده، هو ذاته مكان النهاية، والحال في كلا اللحظتَين للمكان ذاته، هو ذاته لدى الشخصية الرئيسة، لم يتغير عليها شيء.
كلام دولوز أعلاه كان حول ما يمكن رؤيته نقيضاً لفيلم كـ «200 متر»، كان حول لوحات الطبيعة الصامتة عند الياباني ياسوجيرو أوزو، التي «تدوم لعشر ثوانٍ مخصصة لمزهرية» (المقصود مشهدٌ في فيلم Late Spring) وهي «بالضبط صورة ما يدوم عبر تعاقب الحالات المتغيرة»، فهذه «المزهرية ولوحات الطبيعة الصامتة هي صورة صرفة ومباشرة للزمن». ضمن السياق الفلسطيني إذن، يكون «200 متر»، بأحداثه الضاجة، لوحة طبيعة صامتة، المتغير فيها هو الزمان، أكثر من كونه «فيلمَ طريق» ضمن سياق «عادي» يشمل انتقالاً بين نقطتَين يلائم الزمانُ لهذا الانتقال المسافةَ اللازمة له، وذلك كله بمعناه المجازي للفيلم الذي نشاهد فيه حركة متواصلة لاتأملية، وليس بمعناه المادي المباشر، لمصطفى يستقل سيارةً لينتقل إلى الجانب الآخر من الجدار، فينتقل في الزمان بين نقطتَين واحدة عُرفت بعام 67 والثانية بعام 48.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية