لم تتعرض اللغة في كل العالم إلى صعقة هزت كل كيانها مثلما تتعرض له في هذه المرحلة من حياة البشرية؛ فإذا كان الإنسان بحاجة للإشارة والعلامة اللتين يمكن توجيه حتى من لا يفهم لغتك، بهما، فإن الإشارة والعلامة والرقمنة والنوتة الموسيقية كلها تمثل لغة عالمية فصحى، وبقيت اللغات تحتفظ بمحليتها ثم تتلاشى وتختبئ خلف اللهجة كأنها تخشى سوء الفهم، بل هي وناطقها يخشيان ذلك.
الرسم نشاط تخييلي من أهم مقوماته اللون، والرقص نشاط تخييلي أداته الجسد، أما الأدب فمحنته عظيمة، لأنه نشاط تخييلي أداته اللغة، فكيف إذا تحنطت اللغة ورقدت في معاجمها، وحلت الهجنة والرطانة والوجبة الكلامية السريعة بديلا عنها؟ هذه هي حقيقة ما يحدث الآن، فنحن في زمن يمكن لأي مبرمج حاسوب أو متقاعس بحثيا أن يؤلف كتباً، وأن يزيف حتى صورنا وأصواتنا بواسطة الذكاء الاصطناعي.
قد لا ننتبه لأنفسنا بأننا أمة تصفق لمن يضحك عليها، ثم نسمح لأطفالنا أن يضحكوا على من هم بمقام آبائهم؛ ولا تسألني كيف؟ لأننا أنا وأنت عزيزي القارئ ضحكنا كثيرا وصفقنا لعادل إمام وزملائه، وهم يهينون المعلم ومدير المدرسة ويسحلون المؤسسة التربوية من شعفة رأسها؛ ولقد بثت هذه المسرحية ( مدرسة المشاغبين) في جميع البلدان العربية وبموافقة أو بأمر الحكام العرب، لا لشيء سوى أن الحاكم العربي أحد أثنين، إما ملك يحكم بالوراثة أو عسكري جاء بانقلاب، ولن يخرج إلا بانقلاب؛ وهنا لا بد من أن نتذكر أن الملك فيصل في العراق أراد لولده غازي، أن يدخل كلية علمية، فنصحه الإنكليز بالكلية العسكرية بقولهم، إن ولدك ينقصه الذكاء والعسكرة تمنحه التفوق على ذوي الشهادات العليا، ثم ورث العرش وصار ملكا ليفتح باب الانقلابات العسكرية في القرن العشرين، وهو انقلاب حكمت سليمان وبكر صدقي، وما كان ممن يمتلك اللغة وصوتها وسوطها معاً، إلا أن يصدر جريدة اسمها (الانقلاب) أعني شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي رحب بالانقلاب ودعمه، ثم سرعان ما رحب بالمنقلبين على الانقلاب! وقد حدث هذا في زمن الوهج اللغوي، لكن عبادة النسق متجذرة من أيام:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
( لا تتمادى نخبزك خبز العباس)
ثم لم يكتف عادل إمام والمؤسسة المخصصة لخدمته وخدمة التوجيهات العليا، لم يكتف بنسف هيبة المعلم وخراب التعليم، بل راح يسخر من أعلى سلطة تحمي البلاد والعباد وهي «سلطة القضاء» في مسرحيته ( شاهد مشفش حاجة) ليجعل هيبة القضاء في متناول السفهاء بمباركة الحكومة، بل بمباركة كل الحكومات العربية.
أكاديمي عراقي