أتذكر أنني في عام 2019 واجهت أول مشكلة تضع فيها الرياضيات حدوداً عن طريق اللغة، كنت على وشك إنهاء روايتي الثانية حين تلقيت دعوة من «فرجينيا كوارلتي ريفيو» للكتابة عن الاحتجاجات العراقية التي عرفت حينها بـ «ثورة تشرين»، حيث شكلت منعطفاً مهماً في حياتي وحياة أبناء جيلي. رحبت بالدعوة على الفور، وذلك بسبب رغبتي في إيصال صوت الشباب العراقي المحتج إلى العالم. الغريب أن دعوة الكتابة حملت معها شرطاً هو ألا يتجاوز عدد الكلمات (750) كلمة فقط. وفي لحظة فوران عاطفي تجاه ما كان يحصل أمامي، أربكني هذا الطلب الذي لم يكن مألوفاً عندي، خاصة أنني كنت في خضم كتابة رواية كما أسلفت. والرواية هي أكبر مساحة للحرية يمكنها أن تتوفر للكاتب لناحية الكتابة الارتجالية والحذف المبرمج. بقيت أفكر في ليلتي تلك، كيف يمكن أن أكتب (750) كلمة وأتوقف؟ ماذا لو لم أتمكن من كتابة (400) كلمة فقط وتنتهي قصتي مع موضوعي، أو ماذا لو أنني استغرقت في الأمر ونسيت نفسي ثم تجاوزت الألفين كلمة؟ في الواقع، لم أكن متمرسة في العمل الصحافي، وليس لدي خبرة كتابة عمود دوري، فقررت أن أكتب بحريتي وأترك المحرر يتصرف لإنقاذ الموقف.
وهنا بدأت مشكلة جديدة، فقد تجاوز كلماتي الألف كلمة، والمحررة الأمريكية اللحوحة ناقشتني في كل كلمة تقريباً، وأيهما تستحق أن أحذفها، ولماذا؟ وهذا كله كان يجري عبر الإيميلات، حتى توصلنا بعد أقل من شهر للانتهاء من المقال وجعله جاهزاً للنشر. وقعت حينها في ورطة شيء اسمه «رياضيات اللغة»، خاصة أن جريدة الرؤية الإماراتية طلبت مني، في الفترة نفسها تقريباً، أن أكتب عموداً لديهم، ولكنهم هذه المرة اشترطوا أن يكون عدد الكلمات (300) كلمة فقط. والأمر مختلف هنا؛ لأن الموضوع صار أسبوعياً، إذ أصبحت في معركة مع نفسي، كيف أكتب (300) كلمة عن أي موضوع؟ فهناك، في الحياة، مواضيع تنتهي بجملة واحدة. وهناك مواضيع تحتاج رواية من مائة ألف كلمة. وللأمانة، ولأنني تعودت الكتابة منذ وقت مبكر في مواقع التواصل الاجتماعي، فإن (300) كلمة كانت مناسبة لمزاجي، وتعلمت حيلاً لم يتعرف إليها الفيلسوف باسكال نفسه في الاختزال. واستمرت الحال سنتين على هذا المنوال، حتى توقفت عن عمودي في تلك الصحيفة وعدت لروايتي الثالثة، التي تجاوزت المائة والعشرين ألف كلمة ولا تريد أن تنتهي.
الروائي الخالد نابوكوف، ذلك الصانع الماهر الذي قال لنا إن اللغة علم دقيق ووحش جامح يتطلب السيطرة عليه. ومن المؤكد أنه لم يكن يقصد بـ «السيطرة عليه» تحديد عدد المفردات، فالوحش بلا غابة لا نهائية يتحول إلى قط أليف.
كتب الفيلسوف الفرنسي وعالم الرياضيات بليز باسكال، مرة: «اعذرني يا سيدي، لقد جعلت هذه الرسالة أطول من المعتاد، لأنني لم أجد الوقت الكافي لجعلها أقصر». وبمناسبة ما كتب مارك توين بالمعنى ذاته: «ليس لدي الوقت لكتابة رسالة قصيرة، لذلك كتبت واحدة طويلة». وحين يتورط عالم رياضيات يفترض أنه تعلم لغة المنطق والاختزال، وروائي تعلم أن يكتب بلا توقف 28 كتاباً منها روايات وكتب سفر وقصص ومقالات بنفس المشكلة، فهذا يعني أن الاختزال هو المشكلة، وهو أداة الكاتب الأولى، وليس الانثيال ولا التدفق الذي يتباهى به أدباء الشفاهية.
في مطلع القرن الماضي، قال الفيلسوف الألماني فتغنشتاين: «إن حدود عالمي هو حدود لغتي». وحاول، هذا الشاب غريب الأطوار أن يجعل من اللغة كأداة تصوير للواقع، من دون زيادة أو نقصان: «ما يُظهره الكلام هو الصورة المنطقية التي تعبر عن بنية العالم»، وهكذا تأسس تيار فلسفي أوروبي جديد يريد من اللغة أن تكون جافة وجدية وتابعة للواقع. شكراً لأحد تلاميذ فتغنشتاين الذي استطاع أن يجعله ينقلب على كل أفكاره انقلاباً هو الأشهر في القرن الماضي لفيلسوف على فلسفته. ففي منتصف القرن، ألف فتغنشتاين كتابه الثاني حيث أقر فيه «أن اللغة ليست مجرد صورة ثابتة للواقع، بل هي لعبة اجتماعية تكتسب معانيها من الاستخدام والسياق»، وبذلك أصبح لدينا فيلسوفان، هما فتغنشتاين نفسه.
بالنسبة للبعض، الكتابة تدفق سلس، سيمفونية تُعزف برشاقة. وبالنسبة لآخرين، هي تلعثم متعثّر، معركة ضد اضطراب اللغة المعروف بالأفازيا. الكاتب الصحافي الشهير ليونارد بيتس جونيور، تحدث عن الشلل الذي يعتريه أحيانًا حين تبقى الكلمات خارج متناوله، تسخر منه بغيابها. أما جوان ديديون، سيدة الدقة الباردة، فكثيرًا ما وجدت نفسها تصارع جملاً ترفض أن تتماسك، فكتبت تصف الكتابة بأنها «فعل فرض النفس على الآخرين». الجاحظ، عبقري العربية في القرن التاسع، شبه الكتابة بالطبخ: «لا بد لها من توابل ونكهات تمتع وتُغذي»، وحين يطلب منك أن تكتب عدداً محدوداً من الكلمات فأول ضحاياك هو ما يمتع وما يُغذي.
الروائي الخالد نابوكوف، ذلك الصانع الماهر الذي قال لنا إن اللغة علم دقيق ووحش جامح يتطلب السيطرة عليه. ومن المؤكد أنه لم يكن يقصد بـ «السيطرة عليه» تحديد عدد المفردات، فالوحش بلا غابة لا نهائية يتحول إلى قط أليف.
في الحقيقة، أتذكر كل كذلك، وأستشهد بهذا القدر المبالغ به من الاقتباسات والأحداث، لأن لدي هدفاً واحداً، هدفاً غامضاً وسرياً، لا أريد لك صديقي القارئ أن تكتشفه، إلا إذا قررت أن تعد كلمات هذا المقال، وتكتشف أنني أنهيت الـ 700 كلمة بالتمام والكمال، وشكراً لصبرك.
روائية عراقية
من أجمل ما قرات من مقالات
شهد ابدعت من جديد لا يخيب ضني فيها ابدً
مقال في قمة الروعة يأخذك الى عالم أخر