في عام 1979 شهدت منطقة الشرق الأوسط أحداث الثورة الإسلامية في إيران، وهنا برز الخميني، الرجل الكهل القادم كطلقةٍ من القرن الهجري الأول، بفكرة» ولاية الفقيه» التي صاغها خلال فترة التدريس في النجف، والتي تقول إنه لا وجود لمجتمع إسلامي دون دولة إسلامية، وإنّ الشيعة يملكون مؤسسة دينية تستطيع أن تحدد من هو الأعلم، وما هو أفضل للمسلمين، وبالتالي فعليها أن تمسك زمام الأمور العليا.
ومع هذا التحول كان الإسلام وعلاقته بالسياسة يُقرأ هذه المرة من زاوية ما يحدث في طهران، كما بدا غالبية المتابعين لما يحدث مندهشين وحائرين في تفسير ما جرى. وبعد هذه الأحداث بسنوات سيلقي برنارد لويس مجموعة من المحاضرات في شيكاغو 1986 عن ما حدث، لكن عوضا عن ذهابه للميدان، كما فعل في مصر بعد عام 1967، وهذا أمر لم يكن متاحاً لأي أمريكي بكل تأكيد، سيكرر في هذه المحاضرات، التي ستنشر لاحقا في كتاب بعنوان «لغة الإسلام السياسي» ما فعله بعض المستشرقين التقليديين في قراءتهم للحدث من خلال العودة بالمفردات التي يذكرها بعض مريدي الخميني حول الثورة والفتنة إلى التاريخ، وهنا بدا لويس أيضاً حائرا بين فكرة أنّ الإسلام هو نظام ثيوقراطي، كما يظهر مع الخميني، وأنّ الملالي في إيران يصنعون شيئا جديدا تماما في العقيدة الإسلامية، فالمذياع الذي بث منه قائد الثورة خطبه ورسائله، كان من صنع الحداثة، كما يقول في دراسة أخرى له صدرت عام 1996 بعنوان «الشرق الأوسط مغربناً رغم أنفه».
في هذه الأثناء أيضا، كان الباحث الفرنسي أوليفييه روا، القادم من عالم الفلاسفة، يعبر الحدود الإيرانية بين الفترة والأخرى، للإطلالة على ما يحدث في أفغانستان وأهلها، ومما يذكره في مذكراته «الشرق المفقود» أنه خلال هذه الفترة لم يكن المغرمون بأفغانستان يحبون إيران، لأنها في نظرهم «غربية» أكثر مما يجب. وفي المدينة الجامعية في باريس، كان يختلط بالمعارضة الإيرانية، ذات الاتجاه الإسلامي ـ اليساري، التي عادة ما كانت تقرأ كتب علي شريعتي، ولذلك عندما بدأت الثورة الإسلامية، أخذ يتابعها عن قرب في فرنسا، كما شاهد فصولاً منها أثناء عودته من أفغانستان، ومكوثه في إحدى الولايات الايرانية لمدة شهر. وقد بدت له إيران للوهلة الأولى وكأنها تسير في ازدهار مع ولادة نظام جديد، خاصة أنّ الناس أخذوا يتكملون من دون خوف، كما كان بإمكانه الذهاب إلى كل مكان من دون التعرض للتفتيش، لكن لن تمر سوى فترة قصيرة، حتى عاد سجن أيفين الشهير في زمن الشاه لاستقبال أصدقاء الثورة في الأمس.
كان قدوم روا في هذه الفترة، يترافق مع بروز جيل آخر من الباحثين الغربيين المتخصصين بالشرق الأوسط. ففي الوقت الذي كان فيه لويس مثلاً يصر على موضوع دراسة مفاهيم الإسلام التقليدية لفهم ما يجري، (وهذا بالمناسبة ما فعله قسم كبير من المثقفين العرب) كان هؤلاء الباحثون القادمون من خلفيات مختلفة يقتحمون المشهد العام، ليعيدوا تشكيل معرفة جديدة وعميقة بالإسلام في المنطقة، وبالتالي كنا أمام انهيار حقل الاستشراق التقليدي، والاعتماد بدلاً من ذلك على باحثين ميدانيين. مع مرور الأيام، تعمقت معرفة روا بالداخل الإيراني، وفي عام 1992 سينشر كتابه الشهير «فشل الإسلام السياسي» وهنا سيلاحظ أنه رغم دعوات الخميني لدور واسع للعلماء، إلا أنه كان يستعين بالإسلامويين والعلماء صغار السن لمواجهة أي دور لهذه المرجعيات الكبيرة. كما يؤكد من خلال قراءته الأنثروبولوجية أنّ الثورة لم تكن ثورة آيات الله، بل هي ثورة علماء صغار من مرتبة دنيا، كان قد درس بعضهم لدى الخميني، وقد أرفدوا بشبان إسلاميين من أصل علماني، ولذلك، خلافا لمن بحث عن إيران الخمينية في التشيع التراثي، وجد روا أنّ الأصح هو أن نذهب عكس هذا الاتجاه، عبر التركيز على دراسة التشيع الدنيوي في المنط، بدءاً من القرن العشرين وحتى السبعينيات. أول ما سيلاحظه في هذا السياق، أنّ إيران عرفت نوعا من الاشتباك بين أفكار الماركسية والإسلام، أكثر تقدما من نظيره في العالم السني، كما سيلاحظ في سياق بحثه عن الزمن المفقود (اليومي) أنّ الثورة الإسلامية لم تجد لها صدى في الخارج، سوى في المناطق الشيعية، التي شهدت بالأساس سيرورة معاصرة لتشكّل طبقة أكليروسية (طبقة رجال الدين) وقبل ذلك جرى تحول اجتماعي حديث العهد، أزال التأطير التقليدي والعلماني لهذه الجماعات بفعل الهجرة الريفية، ومسار الإفقار، وهذا أمر يصح على جنوب لبنان وعلى العراق، وبالتالي لم يكن المشهد، كما يصور عادة بوصفه تصديرا للثورة الإيرانية، بل هو تثوير للتشيع الشرق الأوسطي، وإعادة تشكيل اجتماعي لنطاق مفكك البنية، حديث العهد بالتمدين على يد أكليروس محلي تكون قبل الثورة، وثمة مثال على لا إقليمية الأكليروس الشيعي، يتمثل في الإمام موسى الصدر في لبنان ونشاط محمد باقر الصدر في العراق، فالموجة الإسلامية عمت التجمعات الشيعية كافة في العالم، انطلاقا من كربلاء والنجف في الخمسينيات، على أسس وكوادر محلية، ومع قدوم الثورة الإيرانية تشكل وهم لدى الدارسين، بأن هذه الحركات ما هي إلا امتداد لما حدث في طهران، وإن كان روا يؤكد أنّ الطابع الإيراني سيضفي ثقافته على الشيعة غير الإيرانيين في عاداتهم وملبسهم (الشادور) وراياتهم وأسمائهم، مع ذلك سيبقى هذا الطابع يصطدم ببعض البنى المحلية التقليدية في العراق، أو ببعض الحركات الشيعية المحلية مثل أمل في لبنان.
عالم الكلاشينكوف
في عام 1995 زار روا مدينة قم، وقدّم أمام مجموعة من الملالي محاضرةً عن نظريته حول فشل المشروع الإسلامي، وقدرة الدستور على فرض شروطه على الشريعة وليس العكس، وأثناء الحديث طلبوا منه تفسير فكرة الفشل، وعندما شرحها، كان ردهم، أنّ ولاية الفقيه قد حلت ذلك، فرد عليهم، لكن من يحدد ولي الفقيه، فقام حينها ملا شاب من قاع الصالة، وصاح متوجها إلى الجميع: الكلاشينكوف. وبعد هذه الحادثة بسنوات، سيكتب روا، مع تكرار زيارته لإيران مرة أخرى، كتاباً مع فرهارد خسرو عالم الاجتماع الإيراني الفرنسي، بعنوان «ما السبل للخروج من ثورة دينية؟» يومها سيعيد ويؤكد روا ما قاله في كتابه السابق، أنّ الدولة في إيران هي من تقرر مكانة الديني وليس العكس، وأنّ تحول الدين إلى أيديولوجيا رسمية أخذ يفرغه من كل روحانيته، ويزيح التدين نحو أنماط أخرى من الحياة الدينية (الصوفية، التلفيقية) وهذا ما نراه مع عبد الكريم سروش، الذي بات يتحدث عن أفكار جلال الدين الرومي بوصفها تمثل جوهر التدين الحقيقي، وأمام هذا التطور لا يبقى «التدين الخميني» على قيد الحياة إلا بالموت، وبعبور الحدود الذي يبقى الأسلوب الوحيد للحفاظ على النقاء والخروج من استعصاء الإسلام السياسي، ولذلك فإنّ الثورة الدينية تدمر نفسها بنفسها.
كاتب سوري
شكراً للكاتب على إتحافنا بالموضوعات المتنوعة!!
ولا حول ولا قوة الا بالله