أَلِف قارئ شعر أمينة المريني ألّا يقرأه خارج منزعه الصوفي؛ فمنذ ديوانها «سأتيك فردا» (2001) ومرورا بـ«المكابدات» (2005) و«مكاشفات» (2008)، وحتى عملها الشعري الأحدث «سِفْر العاشق» (2021)، ظلّت هذه الشاعرة ترسخ فهمها للشعر ووظيفته من خلال العبور في التجربة الصوفية ليس بوصفها معتقدا وثوقيّا تطمئنُّ إليه، أكثر من كونها حاجة روحية وجمالية خاصة للذات وللعالم، تأخذ من اصطلاحات الصوفية وإشاراتهم وفق ما تمليه عليها تجربتها الفردية داخل توتُّر الجسدي والروحي، والشخصي واللاشخصي، مما يجعلها دائمة التدفُّق في مدارج الرؤيا وإشراقات الكشف والعرفان. ولهذا، لا نجد في أشعارها داخل هذه التجربة ما يشي بأنَّها واثقة من نفسها ومستكينة إلى خارجها، وإنّما هي تُعبِّر في جوهرها عن التيه والحيرة واللاطمأنينة، ومن ثمّة عن البحث المضني الذي تضمره الذات لأجل الخلاص مما يثبّط رغبتها وحركة انطلاقها ويقعد بها دونه. وقد شكّل ذلك، في حقيقة الأمر، امتحانا للتجربة وحداثتها الجمالية قياسا إلى البيئة التي عاشتها في فاس، حيث الصنائع والعمران وعبق التاريخ، وإلى الرؤى التي كانت تنبعت منها وظلّتْ تتدفق باستمرار: «وها أنا أدخل، في اعتقادي، باب الحداثة الشعرية بوعي واقتناع، وإن ظلّت الرؤى ممتدة الخيوط إلى هذه البيئة المحافظة التي أنتمي إليها، إن الرؤية الشعرية في تقديري أشبه بمسيل ماء يمتدُّ مُنْسابا، أو متعرجا صامتا، أو هادرا بين الأعمال الشعرية، بل إنه يتشكل وَفْق طبيعة الأرض الشعرية التي يمرّ منها».
سيرة أرخبيلات
إنّ الأدوات التي اشتغلت بها كانت تتطور ضمن الأفق الجمالي الذي ارتضته للتعبير عن كثافة تجربتها، وكان وعي الذات جزءا من هذا التطور ومن ملامح اكتشافه العالم والأشياء عبر خطاب مخصوص يمزج بين ما هو شعري وصوفي، ويمكن اعتبار ديوانها «خرجت من هذه الأرخبيلات» ذروة العمل الشعري الذي يختبر تدوين السيرة داخل تأويلها العرفاني، بما هو فضاء يوسع معنى الذات ويغني فاعليّتها في علاقتها بالبيئة ومجالها الحيوي الذي يمور بالتجارب والقصص والمعاني داخل شرطها الإنساني.
يحضر المكان بمؤشراته الإحالية والرمزية (باب الحمرا، باب السلسلة، زقاق الرمّان، باب المحروق، رأس الجنان، جسر الرصيف، البحر، القفص، الباب، الدرب)، في سيرورة الخطاب بشكل واضح، ويشدّ ذاته المتلفّظة إلى ماضيها الشخصي، حيث تعود إلى طفولتها، وبيتها القديم، ومراتع صباها بين دروب فاس، وعبر هذه العودة تستعيد شخصيات من واقعها المرجعي (الأم، الأب، الجدّ، بنات الحارة، عسالة..)، وتتأسى على ماضٍ مشرق ولّى وأعقبه حاضر ثقيل يرينُ بكلكله على الذات مما يضع تجربتها الراهنة أمام مأزقها. فالعودة إلى الطفولة تقترن بمعاني الفقد والحرمان، كأنّ مسقط الرأس هو سلسلة فُقْدان تمّت في لا وعي الذات، فتسعى إلى استعادته واللوذ به، ليس كما عِيشَ سابقا، بل وفق ما تراكم وانسرب إلى أعماق الذات بما تنطوي عليه من أحلام وهواجس وانكسارات: «كماءٍ يحنُّ/ إلى غَفْوة الخابِيَهْ/ أَحِنُّ إلى حيثُ نيرانُك/ العالِيَهْ/ إلى حيثُ أنتَ/ الملاذُ العَصِيُّ/ الذي أصطفيهْ..».
تُستعاد أمكنة الماضي (بيت الطفولة، باب الفتوح، جسر الرصيف، درب عسالة..) بما هي علامات لاجتراح وَهْم «فردوس مفقود» تظلُّ الذات ترغب فيه وتحلم على الدوام بالعودة إليه، ودليل منجاة كُلّما شعرت بالخوف يتهدّدها، وبالواقع يسدُّ عليها سبل الألفة والأمان. تقترن الاستعادة بمعاني الحلم والتملُّك والبحث عن الخلاص: «تُراني/ قد خرجتُ إلى دروبٍ/ كنتُ أعرِفُها؟/ وأنّي كنتُ في حلمي/ بِلا كَفٍّ أُرصِّفُها؟/ ولكنّي/ وجدْتُ القَيْدَ/ في رُوحي/ يُكبِّلُها/ وأَبْوابا من المجهولِ/ ألمِسُها وأفْقِدُها».
ومن هذا المنظور، تتوجه الذات نحو ماضيها ليس من أجل استعادته وحسب، بل إدراك معنى أنّ الهوية موضوع مفقود ينبغي العثور عليه ثانية، ولا يحصل ذلك بابتكار صورة الذات في خطابها عبر رهان الغيرية، أي في علاقتها بالآخر (الأم، الأب، الجد، عسالة، الحلاج، إلخ)، فيما هي تتوجه وتعيد تعيين وظيفته التي تجري في مستويات شتى، لأنّه لم يعد وحدة مماثلة بسيطة، بل تعدّد واستحال إلى آخر غيره كما في تعبير المرآة: «لمحْتُ على سَنا المِرْآةِ/ وَجْها/ لستُ أذْكرُهُ/ لَوِ المرآةُ/ تُخْبرني/ وتُخْبِرُهُ». وترسم تجربة الخروج بما هي انقطاع ناشئ عن المكان الأول، وانقذافٌ في العالم اللامنتهي، إحدى وظائف الغيرية الأكثر تأثيرا في الذات وحضورها في اللغة والعالم: «يا شَيْخي/ كيف يكونُ عبورُ الحَرْفِ/ على دِمَنٍ خَضْراء/ إلى بَحْرٍ لُجِّيٍّ/ لا يعصي للراكب أَمْرا؟».
إنّ ميل الذات نحو الانفكاك من قيد الطين ومجاهدته روحيّا للانتصار عليه، يدفع الذات إلى التخلي عن المادّيات التي ترهن الجسد وتشدُّه إلى الأرضي، فيكون الفضاء العرفاني عبر مقامات الشراب والهيام والكشف أو حالات الشطح والجذب، مجالا يبحث الخلاص، ويصبغ الأمكنة التي تحلم بها الذات وترغب في اللوذ بها (فتنة الظلّ، ضفاف من اللَّازَوَرْدِ، بُرْدة الغاب، السدرة، الربوة، البستان، خمائل الزيتون، عرصات الكرم، حدائق التسبيح، ذُرى الصحو..)، وعبرها تكتشف دهشة الأشياء وتكتشف سرّ مجاهل العشق. لكن هذا البحث ليس هيِّنا بالنسبة إلى الذات، لأنه بين قوّتين دافعتين، ورُبّما كانت قوة الجسد أظهر؛ ولهذا تتخذ من مقام الغياب حافزا لمعانقة آخر مطلق تتعلّق به وتفرح بقربه والفناء في عشقه، ومن تجربة الخروج محكّ تجربة الكتابة نفسها. فالخروج لا يمثل ثيمة محوريّة فحسب، بل بؤرة دلالية توليدية تشدُّ إليها جماع دلالات النص وأرخبيلاته، بقدر ما تعكس تحوّلات ذات الشاعرة وهي ترتقي من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال: «فيا أيُّهذا الخُروجُ/ تَمدّدتُ فيكَ/ خُيوطَ عناكِبَ/ هَبْ لي/ وُجوهي اللّواتي/ تعدّدْنَ فيكَ/ لأَخْرُج في وَجْهيَ/ المُشْتهى/ السَّرْمديِّ/ إلى مُنْتهاي».
فالديوان هو في الصميم «أرخبيليٌّ»؛ ينطوي على فسيفساء من الأرخبيلات؛ أرخبيلات الجسد وأرخبيلات الروح. ولهذا يمكن أن نحصر دالّ الخروج من أرخبيل إلى آخر على الأقل في ثلاثة معانٍ: أولها؛ معنى معجمي أوّلي لا يخرج عن دلالاته القاموسية المتعلق بالحركة والانتقال والسفر، فلا يؤخذ إلا في هذا المستوى ويُبْنى عليه. وثانيها؛ معنى سيرذاتيٍّ ينصرف إلى طفولة الذات وحياتها في الماضي، ويدلّ على مسار الولادة والنشأة والاكتشاف. وثالث هذه المعاني؛ هو معنى صوفيٌّ يتضمّن محورين دلاليين متراكبين: محور انقطاعيٌّ يشير إلى رغبة الذات من أجل الخلاص من الطين وقيد الجسد والانقطاع عن شهواته وأهوائه عبر انتفاضتها على واقع الضياع الحاضر، والتسامي بالروح عن طريق المكابدة والشراب والكشف. ومحور طباقيٌّ يعبر عن تجربة الحدود في خضمّ ابتلاء الذات في مقام الغربة والمكابدة، وما تشعر به من ضياع وفقدان، بحيث تغدو التجربة مجالا لصراع الأضداد (السفلي/ العلوي، الظمأ/ الارتواء، النار/ الظلمة، القرب/ الوحشة، العراء/ اللباس، الرماد/ الجمر، البداية النهاية)، وتعمل الذات الشاعرة على تشخيصه وتحويل أبعاده فنّيا، إلى درجة أنه يعكس حالة قصوى من التوتُّر الذاتي بين الغياب والحضور في مجال الكتابة وعبرها، ويُكنّي عنها بالفراشة التي تحترق لتضيء طريق الما بين: «مغلولَةٌ/ بِعُقود النُّورِ/ تَلْبسني/ أنا الفراشةُ/ أَفْنى في أحاسيسي».
شفافية التعبير
تعتمد الشاعرة وسيطا لُغَويّا لا يدخل السيرة داخل فضائها العرفاني في مأزق الانبهام واللاتحديد، بحيث لا تُجرّد عالم التجربة من عيانيّته ومدى ملموسيّته الممكنة، وتترك حالات الذاتية الحسية تنبض بمفردات معيشها القريب: «وجدتُ الشِّعْرَ في اليوميِّ/ والسَّطْحيِّ/ والسُّوقيِّ/ وفي سُبُحاتِ إِبْحاري/ إلى الْأَبْهى/ بِلا طَوْقٍ/ وفي عينَيْنِ شارحتَيْنِ/ سِرَّ مجاهِلِ/ العِشْقِ». يهيمن على نصوص السيرة، بحكم طبيعة التجربة التي تصدر عنها، معجمٌ صوفيٌّ وإشراقيٌّ كثيف (الوجد، حال الشُّرْب، الشَّهْد، كؤوس المُدام، الطريق، الغياب، التجلي، الفتنة، الإشراق، المشكاة، الوِرْد، الذِّكْر، الأنس، الذهول، التيه، الصحو، المرآة، البرزخ، الجُبّة، الحجاب، الغزالة، سرّ الفُتون، المقام، الحلم، البهاء، المحو، الموقف، الأنس، التطواف، السدرة، التراتيل، الأنخاب، البستان، الفراش، الشهود..). يشفُّ عن مقامات ذات حائرة ودائمة البحث عن النور وسط «أرخبيلات الروح». ورغم هذه الحيرة وقلق البحث، و»طيوف الوحشة» التي تتراءى حواليها، فإنّها ذاتٌ محفوزة من الداخل من حالات الشطح والجذب، ومتوثّبة تسعى إلى اعتناق العالم وعيش كينونتها المحلوم بها، وتُطلق في ما تسعى إليه «وثبةَ الغزلان».
وإذا كانت لغة الشعرية تستوحي مُتخيَّلها من السجل الديني ومعين التجربة الصوفية، إلا أنّها لا تبقى حبيسة عالمها المتعالي المفترض، بل تتأثر بمعيش الذات ومواجعه من صميم التجربة اليومية؛ فهي لغة غير متعالية، بل محايثة لصميم التجربة، وتنشدُّ إلى الخيال بتجلياته النصية (اللاوعي، الأحلام، الرموز والاستعارات) لقول التجربة في تعددها وكثافتها: «ولي في استعارات روحي/ شرابُ الفناء». وينفتح المتخيل على استدعاءات من قصص الأنبياء موسى ويوسف وزكرياء ومريم العذراء، ومن شعراء المتصوفة في قديم الثقافة وحديثها (الحلاج، التيجاني، المجذوب، ابن الخطيب، الرباوي، آية وارهام، الطبال، الأمراني)، لكنّه لا ينغلق عليها، بل يعيد تأويلها ضمن رموز أسطورية وشعبية (الفينيق، عسالة…)، وضمن تجربة الذات في عبورها إلى «ضفاف الأنس» و»ذرى الصحو». ومن هنا، تتقوّم اللغة تخييليّا على مضمار «أرخبيلات» مضطرمة تجعل من بحث السيرة العرفانية نَوْعا من السياحة الرمزية التي لا تخلو من عذاب ومكابدة، حتى يتحقق للذات شرط خروجها الشاقّ من مضايق هالكة إلى أخرى سالكة: «أخطو بالبابِ/ وحولي قطراتُ الضّوْء رُضابْ/ لكنّ الظُّلمة تطوي/ الدّرْبَ وتشربُ ذاتي/ أَنْخابا أَنْخابْ/ بحرا أنفَذُ فيهِ/ أهيمُ على شطٍّ مَدّدني/ ظِلَّ ضبابْ».
وفي ضوء تجربة لا تفصح إلا عن تعدّدية أحوال الذات وثراء مواجيدها، وعبورها الهامس لذوات أخرى، نكتشف أن الشاعرة استخدمت أسلوب التكنية بالرمز وجعلته في صميمها ونسيج قلقها الروحي؛ وهو أسلوبٌ يُصاغُ باعتباره استعارة كُلّية ترتبط جوهريّا بتحوّلات الذات، وتسيل مفرداتها الإيحائية في علاقتها المبتكرة بالمكان على نحو خاص يحايث إيقاع الذات ويُعبّر عن جوهر كينونتها الداخلية: «يدلُّ على لُغتي البَحْرُ».
كاتب مغربي