من يقرأ العنوان ستعيد أذنه الموسيقية أغنية الفنان عبد المجيد عبدالله، والتي اشتهرت منذ غناها وأداها صاحبها ومازال يرددها الكثير من العشاق ومحبي هذا اللون من الأغاني العاطفية، وكما هو حال الذاكرة تحمل جرحا لا يمكن نسيانه، حيث للطغاة والمجرمين والقتلة أساليب غريبة وعجيبة في التعامل مع شعوبهم، ولعل من أغرب الحركات ما قام به نظام الأسد دون أن تنتابه حمرة الخجل أمام شعبه وعوائل ضحاياه من الشباب السوري الذين مارس جهازه القمعي جرائمه وفنون تعذيبه عليهم، فقد أبدعوا أيما إبداع في تنظيم حفر الموت وفي حرق الجثث وردمها وغيرها من الجرائم المتكررة التي وقف الضمير الدولي أمامها موقف المتفرج.
سجن تدمر
تذكرت هذه الأغنية وأغنيتين مكتوبتين على ظهور سياط “كرابيج” سجن تدمر سيئ الصيت الذي تتعدد صور وحكايا معتقليه وما عانوه من آلام وعذاب.
نظام الأسد الذي أفرج في بداية هذا الشهر الجاري عن عشرات المعتقلين دون ذكر لأعدادهم، ولم ينشر قوائم بأسمائهم، وتركهم في الساحات العامة، وحملهم مسؤولية الوصول إلى مدنهم وقراهم وعائلاتهم ولسان حالهم يقول: على “جسر الطاغية سيبوني!
تعزز حضور تلك الأغاني في ذهني وأنا اشاهد المئات من أهالي المعتقلين الذين ينتظرونهم في وسط العاصمة دمشق، ويأمل كل منهم بلقاء سجينه المعتقل، سواء كان من الأرحام أو زوج أو قريب وصديق.
الذين ينتظرون المعتقلين على جسر الرئيس وقفوا ساعات طوال على جمر الانتظار وعاشوا أتعس الأوقات التي يعيشها الإنسان على وجه الخصوص، وهو لا يستطيع فيها الإفصاح عما يدور في داخله من ألم وظلم يسيطران على أحاسيسه المملوءة بالحزن، فيما كان جلادو نظام الأسد في السجون يعذبون المعتقلين حتى وصل البلد إلى مرحلة متقدمة ينزف فيه أبناؤه المعتقلون دما زكيا صباحا ومساء، والأسد يجلس على كرسيه الذي أصبح يعادل دماء الآلاف من دماء السوريين الذين عانوا الأمرين من طغيانه وظلمه اللذين كان لهما دور فاعل في وصول البلد إلى هذه المرحلة من الاستخفاف بالمسؤولية السياسية والأخلاقية والضميرية.
وكأن لسان حال المجتمع الدولي يقول للأسد: “عرف الطاغية مقامه فتدلعا” وأصبح ينطبق عليه وصف الأحباء لا وصف الأعداء.
سوريا الحضارة والتاريخ
لقد جعل الأسد سوريا الحضارة والتاريخ كطائرة فقدت محركاتها وهي تتهاوى نحو السقوط لا نحو الهبوط، والأسد وشخوص نظامه المجرمون وحدهم من يمتلك مظلات النجاة.
لم يقتصر نظام الأسد على الدلع وحده، بل استخدم سياطه والتي شاهدتها بأم عيني أثناء اعتقالي في سجن تدمر.
من هذه السياط والتي أشدها قسوة سوط كتب عليه “لو بيدي ما خليك تمشي” وهي أغنية لفنان عراقي.
أدوات القمع
وقد تجلى طغيان نظام الأسد في هذا السوط من خلال استخدام أدوات قمعه على الشعب السوري الثائر في كل مكان ومحفل، وأصبح الخوف من ظلمه وطغيانه كظل يرافق السوريين بكل مكان وزمان، ويخشون ذكره بسوء ملتزمين بقاعدة الحيطان لها آذان.
العبارة على هذا السوط تجلت بشكل واضح للعيان من خلال مشاهدة المعتقلين الذين أفرج عنهم والذين بدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية بعد أن أثقلهم العذاب الجسدي والنفسي خلال سنوات من الاعتقال أدت بهم إلى أمراض عديدة وآخرين فاقدين للذاكرة.
وهذا قمة العذاب الذي مارسته أجهزة الأسد القمعية على المعتقلين الذين وجدوا حالهم في وضع لا يستطيعون فيه رد الأذى عن أنفسهم وهم يتجرعون مرارة العذاب النابع من آلام التعذيب الذي يفرضه الجلاد بشكل وحشي خارج كل ما هو إنساني، يستهدف السجين في قيمته الإنسانية محطما كيانه الفردي ومدنسا لكرامته جاعلا منه مجرد “أداة ضارة” يجب التخلص منها.
السادية في أبشع صورها
هذه السادية تجلت في أبشع صورها عند أجهزة الأمن التابعة لنظام الأسد، في السوط الذي كتب عليه “نسيانك صعب أكيد” وهي أغنية للفنان هاني شاكر، والذي لم ينس المعتقلون والسجناء نار هذا السوط وزبانيته الذين كانوا يمسكونه ويجلدون به ظهورهم وهم يرددون هذه الأغنية.
لن ينسى المعتقلون الذين سجنوهم وعذبوهم وأهدروا أعمارهم وإنسانيتهم وتسببوا في آلامهم وآلام ذويهم، ولن ينسى المعتقلون أنهم أبرياء ينتظرون اعتذارا وليسوا مذنبين ينتظرون عفوا.
لن ينسى المعتقلون نومهم وقوفا وعلى جنوبهم وهم يتنفسون أوجاعهم في مقابر متجاورة تتلاحم فيها أجسادهم ويستجدون الحرية بالأحلام، ويأملون بلقيمات زائدة من الطعام وزفرات هواء زائدة يسمح بمرورها حارس فتحة السقف التي يسمونها “شراقة”.
هذه الأغاني الثلاث حولها نظام الأسد لأداة اعتداء على آدمية الإنسان المستضعف والمغلوب، وتعكس أيضا حقيقة آدمية من كتبوها على السياط.
فعندما ذكر الأسد الأب بمرض رفيق دربه صلاح جديد في السجن على أمل أن يشفق عليه ويعفو عنه، أجاب: يخرج عندما أدخل!
وهذا فردانية نظام الأسد الذي لا تربطه بقيم الإنسانية غير جسور الظلم والحقد والكراهية والموت.
الكثير من السوريين يتذكر لعبة ( حاكم جلاد، لص مفتش) التي كنا نلعبها في طفولتنا، وهذه اللعبة أصبحت تحاكي واقعنا المعاش، كبر السوريون ولم يمارسوا الحكم ولا الجلد ولا التفتيش ولا اللصوصية، كبروا ومورس عليهم دور الضحية.
ظن السوريون أنه بموت حافظ الأسد خرجوا من اللعبة، إلا أن الأسد كرر نفسه، واللص بقي لصا، والجلاد بقي جلادا، ومحاكم التفتيش ما زالت تفتش عن أحرار لجلدهم.
ظلت سوريا يحكمها الطاغية ذاته واللصوص والجلادون ذاتهم، هم يتبادلون الأدوار كما يحلو لهم ويضعون قواعد اللعبة طبقا لأهوائهم، ونحن كما نحن يمارسون علينا أدوارهم، وبقينا بلا قانون وسلطة، بل شعب مقتول ومسجون ومسحوق تحت وطأة طاغية أوحد وعصابة من اللصوص والجلادين الذين ينهشون لحومنا ويمتصون دماءنا ويسمسرون على خروجنا من معتقلاتهم.
وليس هناك أفظع من أن تعيش في وطن يحكمه لصوص وجلادون وسجون التفتيش.
كاتب سوري