الفيل وديكتاتور الزمان: عن مذكرات فاروق الشرع المنقوصة

قد يعيد عنوان المقال الأذهان إلى مسرحية (الفيل يا ملك الزمان) للكاتب السوري سعد الله ونوس. تتحدث المسرحية عن قصة حاكم ظالم، عاث هو وجنوده في الأرض فساداً، وفي أحد الأيام حفز رجل من المدينة يسمى زكريا أهلها للشكوى أمام الملك.
وبالفعل قرروا فعل ذلك، لكنهم عندما وصلوا إلى أبواب قصر الملك، خافوا وقالوا له (الفيل يا ملك الزمان)، وعندما استفسر عن مرادهم، أجابوه بأنهم يقترحون عليه تزويج الفيل، فأصدر الملك فرماناً يقضي بشراء فيله وتزويجها لفيله، وبذلك لم يتمكن الأهالي من مواجهة الملك، ولو لمرة واحدة، وتركوا زكريا وحيداً.
العنوان ذاته، والقصة ذاتها، نعثر عليه مؤخراً أيضاً في مذكرات وزير الخارجية الأسبق لسوريا فاروق الشرع. إذ بدا الشرع في مذكراته (الجزء الثاني) محاولاً القول إنه كان زكريا سوريا منذ عام 2000 وحتى لحظة اعتكافه في منزله عام 2013، اعتراضاً على طريقة إدارة بشار الأسد وأفياله للأحداث في سوريا بعيد 2011. عرف فاروق الشرع في سوريا من خلال عمله لسنوات طويله وزيرا للخارجية، ويحسب له في فترة عمله الدبلوماسية دوره الناجح في مناسبات عديدة، وأيضاً تمسكه بمواقف صلبة حيال القضايا العربية، وبالأخص الفلسطينية. يذكر دينيس روس في كتابه «السلام المفقود» أن الشرع كان مفاوضاً صعباً خلال المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية برعاية أمريكية. كان الشرع قد أصدر قبل سنوات الجزء الأول من مذكراته بعنوان «المذكرات المفقودة»، روى فيها تفاصيل المفاوضات مع إسرائيل من الزاوية السورية. وبعد عام 2013، جلس الرجل في منزله، وأخذ يدون تفاصيل أخرى من رحلته الدبلوماسية، بدءاً من نهاية التسعينيات، وحتى عام 2019، وهو العام الذي انهى فيه كتابة المذكرات.
لا يخلو الجز الثاني من مذكراته، من تفاصيل عديدة حول لحظات مفصلية في تاريخ سوريا خلال العقدين الأخيرين، وأهمها تعيين بشار الأسد رئيسا للجمهورية، ومقتل رفيق الحريري، ولاحقاً اشتعال شرارة الثورة في سوريا 2011. مع ذلك، لم تخلُ ذاكرته أيضاً من بعض التعنت في سرد الأحداث، وهو عناد عرف به الشرع في مرات عديدة، كما أن روايته لبعض الأحداث بقيت تفتقد لبعض عناصر الحكاية. وقد يعود ذلك لموقع الشرع نفسه، فهو لم يكن في دولة أمنية مثل سوريا، رجل أمن أو مخابرات، بل كان سفيرا للبلاد، ما جعله أحياناً غير قادر على الوصول لبعض المعلومات. مع ذلك يشكل الاطلاع على مذكراته فرصة جيدة لفهم بعض التفاصيل في العقدين الأخيرين من سوريا.

توريث السلطة:


يتحدث الشرع في القسم الأول من مذكراته عن المسار، الذي أوصل بشار الأسد إلى السلطة. ربما تعامل معه الشرع يومها بوصفه الابن الأصغر للأسد، ولم يتوقع أو يخطر في باله أن يصبح لاحقا رئيس للبلاد. عاد بشار بعد مقتل أخيه باسل في حادث سير عام 1994، وفي عام 1998 فاجأ أحد الصحافيين الفرنسيين الرئيس حافظ بسؤاله قبيل زيارته إلى باريس، ما إذا كان يهيئ ابنه بشار لخلافته، أجاب «أنا لا أهيئه ليخلفني، ولكن هذه الأقوال التي تتردد حوله تأتي من نشاطه، وما يحظى به من محبة زملائه».
كانت هذه الكلمات – التي ربما قيلت للصحافة علناً أول مرة – بمنزلة التزكية لبشار أمام كوادر الحزب والدولة. في المقابل أبدى يومها بعض الضباط الكبار مثل حكمت الشهابي، وعلي دوبا عدم رضاهم عن هذا السيناريو، ما دعا الأسد الأب إلى إحالتهم للتقاعد.
جاء بشار للسلطة بين ليلة وضحاها، وهنا لا يبدي الشرع أي خجل، أو نقد لما حدث. فهو بصفته سياسياً مدركا للملفات الدولية، ربما بدا له الأمر تحصيل حاصل. وخلافاً لبعض السياسيين السوريين، أمثال عبد الحليم خدام، والذي أظهر في جزء من مذكراته المنشورة بالقطارة، أنه رفض هذا التوريث. بينما لا يقدم الشرع هنا أي مقولة في هذا الجانب، أو أنه حتى حاول رفض ذلك، بل إنه يلمح إلى دور عبد الحليم السلبي في هذا الجانب، الذي حاول رواية ما حدث بطريقة أخرى بعد انشقاقه.
بدا بشار شاباً واعداً، كما يقول الشرع، ووعد بإجراء إصلاحات سياسية. ربما ظن الشرع آنذاك، كحال معظم المسؤولين السوريين، أن هذا الشاب لا يمتلك الخبرة الكافية، وهو ما لا يشكل خطراً كبيراً، لكن سرعان ما أدرك أن بشار كان يدير كل الأمور في الخفاء، وأنه في فترة قصيرة قرر الانقلاب على الحرس القديم، وعلى ما عرف بربيع دمشق، من خلال إلقاء القبض على بعض المعارضين، أمثال رياض سيف، وعندما سأله الشرع عن سبب الاعتقال، وأنه لم يفعل شيئاً يستوجب هذا القرار، فاجأه بالقول «بأنهم (منتدى رياض سيف) كانوا يتحدثون بلغة طائفية!». بدا آنذاك للبعض أن ابن الملك السابق، قد يكون أكثر وحشية من والده، إلا أن الشرع يومها ظل صامتاً، وغير قادر على فعل أي شيء. وربما كان عليه الانتظار ليكتشف هذه الحقيقة مع قدوم حدث 2003 وغزو العراق.

مقتل الحريري:
من الأشياء اللافتة في المذكرات، رواية الشرع لقصة مقتل رفيق الحريري. ربما توقع القراء أن تكون في هذه القصة تفاصيل جديدة لم تكشف بعد، أو أي إشارة لمرتكبيها، خاصة أن معظم الاتهامات ظلت تحوم حول الأسد والإيرانيين. في هذه الجزئية، نعتقد أن رواية الشرع ظلت منقوصة، ربما يعود ذلك لكونه كتبها في سوريا، وأوصى بعدم نشرها إلا بعد وفاته، أو لأنه فعلاً لم يكن على اطلاع كامل على ما يجري في أروقة المخابرات السورية. اللافت هنا في هذه الحادثة أيضاً، أن كلام الشرع يوحي بأن الأسد لا علاقة له بما جرى، وأن ما قيل عن تهديد الأسد للحريري لم يجر في الواقع. يذكر مثلاً، أنه شعر بقلق، خصوصاً بعد صدور تسريبات إعلامية تزعم بأن بشار الأسد كان قد هدد رفيق الحريري، لكي يرغمه على تصويت كتلته في مجلس النواب اللبناني لصالح التمديد للرئيس لحود. سأل الأسد مباشرة عن مدى صحة هذه التسريبات، فنفى الأمر، لكنه لم ينفِ اللقاء، الذي لم يعلن عنه سابقاً، فطلب من الأسد الاطلاع على محضر اللقاء. أرسلت له نسخة منه في مغلف مغلق مع مراسل من القصر. كانت التسريبات التي جاءت من أوساط لبنانية ومن قصر الإليزيه، تزعم أن التهديد من الرئيس الأسد وصل إلى الحد الذي قال فيه إنه سيكسر لبنان على رأس رفيق الحريري، إذا لم يقبل التمديد للرئيس لحود. ولكن الشرع كما يذكر لم يجد في المحضر ما يتعلق بتكسير الرؤوس، ويضيف «لكنني لم أستنتج أن اللقاء كان ودياً، خلافاً لما اعتاده الرئيس من لطف في حديثه مع ضيوفه».
يلمح الشرع في هذا الجانب أيضا لشخصية رفيق الحريري، ويبدو من كلامه عنه، أنه لم يكن يستسيغه كثيراً، وهو أمر يعزوه لكون الحريري حاول شراء ذمم كل المسؤولين السوريين، بمن فيهم الشرع يوماً ما، لكن الأخير رفض ذلك.
يكمل روايته في حادثة اغتيال الحريري، ويؤكد أن ما سعى إليه بعد الحادثة هو إدخال الشك لا أكثر في رواية الاتهام، وحاول إقناع الروس بالتعاون مع علي مملوك، بأن الحفرة التي نتجت عن تفجير سيارة الحريري، لا يمكن أن تكون من فعل سيارة مفخخة، وقد نجحوا كما يذكر في دفع الروس للكشف عن صور تظهر وجود طائرات أمريكية كانت تحوم في موقع التفجير في اليوم نفسه تقريباً! يبدو الشرع هنا ميالاً إلى قصة أن هناك مؤامرة جرت، وهو تحليل أقرب ما يكون لشخصية الشرع، فهو إن عرف بمواقفه الصلبة والمتمسكة بحقوق السوريين، لكنه كان يميل في مرات عديدة، وخلال الاجتماع مع الدبلوماسيين العرب، إلى ربط وتفسير كثير من الأحداث في المنطقة بالغرب ومؤامراته، أو لعل هناك دورا إيرانيا أوسع في هذا الجانب.

فيل يدهس المتظاهرين
يذكر الشرع أنه بسبب مواقفه الدبلوماسية، دعاه الأسد لترك منصب وزارة الخارجية، بطلب كما يذكر من السعودية. عين نائباً لرئيس الجمهورية. يقف عند حادثة مقتل غازي كنعان، وخلافاً للرواية السائدة عن مقتله، وما قيل عن مسؤولية الأسد عنها، يبدو الشرع مقتنعاً بأن ما جرى خلاف ذلك، وأنه سأل الأسد عما حدث، فما كان من الأخير إلا أن «رفع سماعة الهاتف فوراً، وتحدث إلى مدير مكتبه أبو سليم قائلاً، يجلس بجانبي أبو مضر. طلب الرئيس منه قراءة رسالة غازي كنعان التي أرسلها إليه قبيل وفاته. قرأ أبو سليم نص الرسالة، بعد أن ضغط الرئيس على زر الهاتف لأستمع إلى الصوت مباشرة. كانت رسالة يرجو كنعان الرئيس فيها بأن يرعى عائلته وأولاده من بعده، وتخللها الكثير من الشكر والتقدير للرئيس». والغريب أن الشرع هنا يبدو مقتنعاً بهذه الرسالة، ربما المنحولة، والتي لعلها كتبت لتبرئة ساحة الأسد لاحقاً، دون أن يسأل نفسه حتى عن مدى دقة هذه الرسالة، أو حتى صدق رواية أبو سليم دعبول، الحارس الأمين لأسرار الأسدين.
هل كان الشرع ساذجاً لهذه الدرجة؟ يبدو أنه ظل متشككاً بنوايا السلطة وسرديتها، لكنه آثر السكوت في هذه الفترة، وحاول أن يبحث عن حلول تنقذ البلاد من تبعات هذه الأحداث، أو الورطات التي أوقعهم بها بشار.
بعد هذه الحادثة، ينتقل بنا سريعاً نحو أحداث 2011. وقد حاول الشرع التلميح، كما يذكر في أكثر من مناسبة إلى وجود حالة من التململ والتذمر في الشارع، منذ عام 2008، بسبب ما عاشته البلاد من تدهور في أوضاع المزارعين، وهجرة أكثر من مليون شخص نحو مدينة دمشق جراء الجفاف. ومع اندلاع الثورة في درعا، التي ولد فيها الشرع، حاول الأخير مع عدد من المسؤولين الآخرين ممن قتلوا لاحقاً في ما عرف بتفجير خلية الأزمة، السعي نحو حل الأمور دون أن تتفاقم، لكن بشار وفي أحد الاجتماعات قال لهم إنه «من الآن فصاعداً سيقود منفرداً السياسة الخارجية من تحت الطاولة». كما يذكر في هذا السياق أن الروس مثلاً حاولوا إقناع الأسد في البداية بضرورة البحث عن حل سياسي، لكن الأسد ظل يماطل ويصر على العمل العسكري. حاول الشرع في هذه اللحظة، وخلافاً للمراحل السابقة، الذي بقي فيها صامتاً، أو لنقل قابلاً برواية النظام على مضض، لعب دور زكريا في مسرحية سعد الله ونوس، فأخذ يقنع بعض المسؤولين بضرورة أن يدعوا الأسد صراحة للتوقف عن تأزيم الأوضاع. وافق هؤلاء المسؤولون على اقتراح الشرع، لكنهم ما أن كانوا يصلون إلى بوابات القصر الرئاسي حتى يتسابقوا إلى ترضية الأسد والنفاق له، أو محاولة الالتفاف على الموضوع، من خلال تحميل أطراف أخرى مسؤولية ما حدث.
قرر الشرع، الذي كان يشغل آنذاك منصب نائب رئيس الجمهورية، الاعتكاف في منزله كردة فعل على مواقف الأسد المتهورة. بدا يومها شجاعاً مقارنة بالعديد من المسؤولين السوريين ممن اثروا الصمت، وصفقوا للديكتاتور، أو لاذوا بالفرار.

من هو بشار الأسد؟
ربما أثير السؤال كثيرا في السنوات والأشهر الماضية، وربما سننتظر لسنوات وسنوات، كي نتمكن من فهم شخصيته والأفكار الوحشية التي جاء بها. لا تخلو مذكرات الشرع، من بعض اللمحات هنا وهناك، حاول من خلالها رسم صورة عن بشار الأسد، كما عرفه عن قرب. يؤكد أنه اكتشف في وقت متأخر أن بشار يعاني من ميول سيكوباثية، وهي حالة نفسية يفتقد أصحابها كلياً المشاعر؛ فلا خوف من العواقب، ولا شعور بالندم تجاه الخطأ، ولا تفاعل مع آلام الناس، أو حتى هموم المحيطين به. كان بشار نرجسياً لا يعرف دواخله إلا عدد محدود من المسؤولين الآخرين، وكان يسعى دوما لتسويق صورته وصورة زوجته كلوحة فنية من تراث الغرب الأوروبي.
في الصفحة الأخيرة من المذكرات يقول الشرع مع الانتهاء من كتابتها عام 2019 «نجح الرئيس بشار الأسد في البقاء في السلطة بمساعدة الروس والإيرانيين، الذين نالوا حصتهم من سوريا مقابل ديون ثقيلة يستعصي سدادها.. يحلم بشار الأسد أن يحوّل الجمهورية إلى مملكة عندما تقترب نهاية ولايته من استحقاقها لتصبح الملكية العربية الأسدية». ولعله لم يكن مخطئاً آنذاك، أو متشائماً في تلك اللحظة، فما حدث في الأشهر الماضية في سوريا، لم يكن أمرا متوقعاً، بل كان أقرب ما يكون للحلم، وقد نحتاج لسنوات كي نفهم ما الذي حدث، أو نصدق زمن عائلة قد فرّ من مسرح التاريخ.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    لم يكن فاروق الشرع بعيداً في ضيق الأفق عن بشارن الهارب. فقد كان يرى ويعلم كيف تنتهي مهمة الذين يخدمون سلطة بيت الأسد الذين انتهت صلاحيتهم، إما في الخارج (أو المنفى) أو تحت الإقامة الجبرية أو أموات منتحرين أو منحورين كما يقال! فلماذا رضي أن يقوم بخدمة الوريث الجديد وكأنه لم يدرك أو ربما لم يكن صاحب إدراك كافي كبشارون الهارب نفسه!

اشترك في قائمتنا البريدية