شكلت الألوان بكل تشكلاتها وتمثلاتها فضاء دلاليا؛ للتعبير عن انفعالات وتفاعلات نفسية وفكرية إرادية ولاإرادية، فللون أثره وتأثيره الأكيد، الذي تتكشف من خلاله تقلبات النفس ومدى انجذابها وتجاذبها مع ما حولها، سلبا أو إيجابا، ومن هنا كان التفضيل اللوني عاملا مساعدا لدى علماء النفس في تحليل الشخصيات، وللون حضوره الواضح لدى الناس، قديما وحديثا، سواء بدلالته الانطباقية، أو بدلالته الرمزية.
وقد استخدمت الألوان قديما وحديثا كرموز تعكس بدلالاتها التكوينات الإثنية والفكرية والتاريخية للمجتمعات، من خلال التشكل اللوني للأعلام والرايات، التي حرصت تلك الشعوب على أن تمنح هذا التشكل اللوني نوعا من التقديس، باعتباره رمزا محملا بدلالات تعكس التمثل الصوري لهذا الشعب. ومن الطبيعي أن تختلف الشعوب في نظرتها للألوان ودرجة تفاعلها معها، متأثرة بالموروث التاريخي والفكري، سواء كان دينيا أم سياسيا أم فلسفيا أم ثقافيا، ومن الطبيعي أن تكون هناك تحولات في طبيعة التعامل مع الألوان تبعا للتحولات الفكرية والسياسية والثقافية، وتحت هذه الإضاءة ننطلق بقراءتنا لمجموعة الشاعر نامق عبد ذيب الموسومة «أضاءت حياتي بكلام أزرق» الصادرة عن مؤسسة مصر مرتضى للكتاب العراقي عام 2011. وقد جاء غلاف المجموعة مغرقا في زرقته، تأكيدا للإشارة الدلالية للعنوان. ومن خلال قراءتنا للقصيدة التي حملت عنوان المجموعة، سنتعرف على طبيعة تعامل الشاعر مع اللون ودلالاته الرمزية. واختيار الشاعر للون الأزرق كفضاء رمزي لشكل حياته، يتطلب منا البحث في العلاقة بين هذا اللون ودلالاته المتعارفة وماهية توظيف الشاعر لرمزية هذا اللون. والأزرق هو أحد الألوان الأساسية الثلاثة، وعرف بأنه: «من الألوان الباردة، فهو يثير الشعور بالاسترخاء ويناقض الإثارة، يثير الشعور بالراحة والسلام» (دلالة الألوان في شعر المتنبي- عيسى متقي زادة).
وفي اللون الأزرق دلالة على الثقة والأمان ويشجع على الإبداع، وبسبب تأثيره الإيجابي على تهدئة النفس اختير للاستخدام في المستشفيات، ووفقا للتراث الهندي أن اللون الأزرق له تأثير على بعض (التشاكرات السبع) والتشاكرات: «هي أماكن تمركز الطاقة، وتمركزه يقع في تشاكرا العين الثالثة التي لها علاقة بالوعي والإدراك والإلهام، ويستخدم التشاكرا المتنبئون والصوفيون، وتأثيره في المخ والجهاز العصبي، وكذلك له تأثير في تشاكرا الحنجرة، ولهذه التشاكرا علاقة بالتعبير والتعامل والسمع الداخلي للإلهام والإبداع، ويدل على التضحية وفقا للفن المسيحي الذي اختاره كرمز للابن (المسيح) وعند المتصوفة الأزرق هو سماء جوبيتر المخلوقة من نور التأمل» (كتاب الألوان – كلود عبيد). وقد يدل اللون الأزرق على الحزن والعزلة، وربما دل في موروثنا العربي على الخبث، أو الشر كما يقال: (ناب أزرق أو موت أزرق) وجاء في القرآن الكريم: «وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا» فماذا أراد نامق عبد ذيب أن يوحي لنا بعتبة مجموعته هذه؟ يقول في قصيدته «أضاءت حياتي بكلام أزرق»: أيتها الحرب/ هؤلاء النسوة يبحثن في قبور/ عن قناديل مطفأة/أو قلوب لأبناء رضعوا النسيان.
ثمة خروج عما يوحي به اللون الأزرق من هدوء وسلام في هذا المقطع: «المدينة صغيرة أيتها الكلاب/ صغيرة جدا/ لا تكفي لكي أهرب بعيدا/ لهذا سأقف هنا/ ولتنبحي إلى آخر مؤخراتك/ أنا الذئب القادم من أول العطش/ إلى آخر الدم».
وهذا أول تمثلات اللون الأزرق بدلالاته الحزينة، «أيها البعيد الجميل مثل غيمة/أنا أتسرب/ هذا الشاعر/ وأنا روحه الزرقاء مثل دمعة/ يبتعد/ ولا أدري ماذا أفعل/لا أدري ماذا أفعل بدون جسده الأزرق/ الذي ابتعد مثل غيمة/ لا أدري». وهذا تمثل آخر يوحي أيضا بالحزن والعزلة، غير أن الشاعر يؤكد على الانغماس كليا بهذا اللون، روحا وجسدا، وفي هذا المقطع ثمة تأكيد واضح على حجم العزلة التي يعيشها الشاعر، بدلالة تكرار مقولة (لا أدري).
بيد أننا نلمح ثمة خروج عما يوحي به اللون الأزرق من هدوء وسلام في هذا المقطع: «المدينة صغيرة أيتها الكلاب/ صغيرة جدا/ لا تكفي لكي أهرب بعيدا/ لهذا سأقف هنا/ ولتنبحي إلى آخر مؤخراتك/ أنا الذئب القادم من أول العطش/ إلى آخر الدم». ولنا ان نسأل: كيف انقلب ذلك الهدوء والعزلة والبرود إلى ثورة، وتحد صارخ معزز بصفة ترهب المقابل، تتمثل بثنائية (الذئب/الكلاب)، هذا الذئب المدجج بأول العطش، وآخر الدم وكلا السلاحين هما تعبير عن حجم اليأس الذي يطوق الشاعر المتحدي، والذي أعلن عنه بقوله: «لا تكفي لكي أهرب بعيدا»، إذن فإن هذا التحدي، وهذه الثورة، وهذا الانقلاب الخارج باللون عن دلالته المعروفة، هو نتاج هذا الحصار المطبق الذي أحاط بالشاعر من كل الجهات.
ثم نراه يعبر عن شعور باليأس والقلق من خلال التغيّر الذي يعكسه لونه الأصفر: «أستحي كثيرا/عندما أراك أيتها الشجرة/أنت خضراء/ وأنا اصفر/أنت شجرة/ وأنا عمود رخام/أقف بدون أغصان/ أقف وترتفعين/ أقف وتثمرين/ أقف وترفرفين/أستحي كثيرا أيتها الشجرة/أنا مجرد عمود رخام أصفر… إلى الأبد». إن إحساس الشاعر بالعجز هو إحدى دلالات اللون الأزرق، وهو يفضي أيضا إلى القلق المتمثل باللون الأصفر، في مقابل ذلك الأخضر المثمر. ولكي يعبر عن قلقه بوضوح أكثر يضع هذا التساؤل: «كلما تموت فراشة أتساءل: ماذا سيفعل ملاك الموت/ بكل هذه الألوان اليتيمة».
أما المقطع السابع الذي يكرر فيه الشاعر كلمة (فضة) إحدى عشرة مرة و(اللون الفضي) هو المعبر عن النقاء، الذي سينتهي بنتيجة الفقدان (أضعتها)، والذي سيتسبب بنتيجة أخرى، عبّر عنها باقتباس قوله تعالى: «واشتعل الرأس شيبا» مبدلا واو العطف بفاء السببية، والتكرار هنا جاء؛ ليعبر عن فداحة الخسارة، التي ستكون نتيجتها واقعة أيضا في دائرة رمزية اللون الأزرق التي اختارها.
وفي المقطع التاسع يعود إلى استخدام اللون الأصفر، ولكن بتعبير مزدوج الأول كعلامة للمرض والفقر، والثاني كدلالة للغنى باعتباره لونا للذهب «ألك كل هذه الصفرة/ على وجوه أبنائك/ وتقولين لا ذهب عندي/ يا بلادي».
ثم يختتم نصه بالتأكيد على المتعالية النصية، جاعلا من الحرب السبب الرئيس في طغيان هذا اللون الأزرق، والذي يبدو من خلال هذا الترابط السببي بينه وبين الحرب، إن نامق عبد ذيب قد اختاره بدلالات تجمع بين الحزن والتضحية والتأمل والعزلة، وربما النبوءة بما ستخلفه من آثار سلبية تلك (الحرب القابلة غير المأذونة) كما يصفها.
٭ كاتب عراقي