المنفى والمكان في تجربة الكاتب الروائي: انشطار الذاكرة واكتشافها

هناك العديد من الموضوعات في النتاج الروائي تبقى مادة غنية ومفتوحة للبحث والقراءات النقدية، على نحو يفضي إلى نتائج جديدة كلما أعيد النظر فيها، من بينها إشكالية العلاقة بين الروائي المنفي، والمكان الأول الذي غادره، وعلى وجه خاص تتضح هذه العلاقة لدى كتاب العالم الثالث، بناء على طبيعة الصراعات السياسية التي تحكم بلدان هذا العالم وتضعه بشكل مستمر في مرجل يغلي بالأزمات المحتدمة والخطرة، حيث ترتفع حدة الخلافات وتتشنج في أبسط الحوارات التي تتعلق بالشأن العام، ما يضع حياة الإنسان تحت التهديد بشكل دائم. وفي حقل الرواية تمثل العلاقة بين المكان والمنفى، موضوعات رئيسية ترصد تطور الشخصيات من الناحية النفسية والإنسانية، وتعكس هذه العلاقة المعقدة مكونات الوعي الفردي، كما تطرح للنقاش جوانب فلسفية وثقافية ما بين الشخصية والمكان في إطار بنية السرد، على اعتبار أن المكان ليس كيانا منفصلا عن الإنسان، بل هو كيان حميم وخاص، وتأثيره عليه خلاقا ومتغيرا.

علامة انتماء

في العديد من الروايات، لا يُعد المكان بيئة جغرافية تجري فيها الأحداث فقط، بل يمثل جزءاً من الهوية والذات للشخصيات، وقد يشكل المكان الذي تنحدر منه الشخصية مأوى وأمانا لها، وقد يمثل علامة انتماء. وعلى الجانب الآخر، يعد المنفى خروجا قسريا عن المكان، وإشارة قوية على الخطر الذي يتهدده بالزوال من الذاكرة والوجدان، فيفقد الشخص بسبب المنفى هويته ومعرفته بذاته. وفي الرواية يظهر تأثير المنفى بوضوح على الشخصيات، حيث يفقدون شعورهم بالانتماء والهوية، وقد يصبح المكان الجديد مجرد مكان للعيش، يخلو من الروابط العاطفية والثقافية التي كانت تربط الشخصية بمكانها الأصلي، ولا غرابة إذا ما تتعرض الشخصيات إلى صدمة ثقافية واجتماعية، عندما تجد نفسها غريبة في بيئة جديدة عليها.

فقدان الانتماء

أيضا تتيح العلاقة بين المكان والمنفى للروائي فرصة استكشاف مفاهيم تتعلق بانتمائه وهويته وجذوره، ويمكن أن تكون هذه العلاقة رمزا للتغير والتحول عندما تجد الشخصيات في النهاية الانتماء والهوية في المكان الغريب، والعكس صحيح أيضا إذا ما كان الوجود في المنفى مأساويا، حيث تتلاشى هوية الشخصية وتختفي تماما تحت وطأة الغربة والتبعية. وفي تجربة المنفى يصبح تأثير المكان الأول للروائي ذا أهمية بالغة على عدة مستويات، سواء على الصعيد الشخصي للكاتب نفسه، أو على الصعيد الأدبي، فالمكان الذي تركه قد يكون بمثابة مصدر للذكريات والتجارب الحياتية التي قد تتغير أو تتلاشى تحت وطأة المنفى. وقد يشعر الكاتب بفقدان الانتماء والهوية، عندما يجد نفسه بعيدا عن المكان الذي نشأ فيه وتربى، وهذه المشاعر تنعكس بلا شك على أسلوب كتابته واختيار مواضيعه، كما تعزز من عمق تجارب الشخصيات وتطورها في رواياته.
بمعنى أن المنفى يتحول لدى البعض إلى تجربة ثرية على مستوى الكتابة، رغم مرارتها، حيث يجد الأديب نفسه ملهما لكتابة نصوص سردية تتناول قضايا المنفى والهجرة والانتماء، بناءً على تجربته الشخصية، ومن هنا يصبح نتاجه الأدبي مساحة غنية لاستكشاف الذات، في ظل التشتت الثقافي والجغرافي، لتستحيل أعماله إلى مادة في غاية الأهمية في مجال البحث والدراسات التي تتناول تجربة المنفى والهجرة وموضوعات مثل التغيير والتكيف، أي أن المكان الأول للروائي المنفي، يترك غالبا أثرا عميقا وشاملاً يؤثر على الصعيد الشخصي والأدبي والثقافي، ليتحول إلى مصدر إلهام لإنتاج أعمال أدبية ذات قيمة فنية وثقافية كبيرة.

المنفى بين الأنباري والجزائري

مناسبة الحديث عن هذه العلاقة واشتباكاتها في حقل الكتابة الروائية، الأمسية التي أقيمت في مبنى اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين نهاية الشهر الماضي في بغداد، تحت عنوان «المنفى والمكان» حيث تناوب على الحديث فيها الروائيان شاكر الأنباري وزهير الجزائري، وكلاهما عاشا تجربة المنفى لفترة تزيد على الثلاثة عقود.
في بداية الحديث أشار الجزائري إلى أن هناك ثلاث نقاط تجمعه مع الأنباري، أولا المنافي المتعددة التي مرّ بها الاثنان، وثانيا الاهتمام بالمكان، وثالثا الاشتغال في منطقة السرد. والسيرة الذاتية للأنباري تشير إلى أنه انتقل من قرية الحامضية في مدينة الأنبار متجها إلى بغداد ومن ثم إلى كردستان العراق، ومن بعدها اتجه إلى سوريا لينتهي به المطاف لاجئا في الدنمارك، وقد انعكست في نتاجه الروائي ظلال الأمكنة التي مرّ فيها.
أما الجزائري فقد شهدت مسيرته انتقالات بين أمكنة مختلفة بدأت بالانتقال من مدينة النجف إلى بغداد ومن ثم إلى سوريا ومن بعدها حطت به الرحال في لندن، وقد أشار إلى أن المنفى الذي أخذ منه ما يزيد على الثلاثة عقود لم يكن شاغله في مجمل كتاباته، بل كانت بغداد دائما ما تسكن ذاكرته ولم تغادرها، ودائما ما كان يحاول مع أصدقائه في المغترب استذكار تفاصيل كل الأمكنة التي عاشها في العراق حتى لا يمحوها النسيان، ومن وجهة نظره فإن التمسك بالمكان يختلف بين شخص عاش في المكان نفسه ولم يغادره، وآخر عاش تجربة المنفى. وذَكر أنه طيلة فترة المنفى لم تمر عليه لندن في أحلامه، كما لو أنه لم يعرفها ولم يعش فيها، وعلى العكس من ذلك دائما ما كان يحلم بأماكن في بغداد، وهنا استعار كلمة الروائي سلمان رشدي البريطاني الجنسية الباكستاني الأصل، الذي عاش هو الآخر تجربة المنفى، عندما شبه المنفى بالكرة المقذوفة إلى الأعلى، فهي لا تصعد ولا تنزل إلى الأسفل.

متى يصبح الكاتب منفيّا؟

أما شاكر الانباري فقد طرح سؤالا جوهريا من وجهة نظره: متى يصبح الإنسان أو الكاتب منفيا؟ وفي معرض إجابته على السؤال استعرض المدن العراقية وأماكنها التي عاش فيها خلال فترة شبابه قبل أن يتخذ قرار المغادرة إلى المنفى، وحسبما جاء على لسانه، فقد شكلت تلك الأمكنة ذاكرته، لكنه أضاف أن الشخص أو الأديب عندما يغادر هذه الأمكنة منفيا إلى مكان آخر، سيواجه ثقافة أخرى بعادات وتقاليد ومفاهيم واخلاقيات مختلفة عن جذوره، كما حصل معه، عندما غادر العراق وعمره آنذاك 28 عاما، حينها يصبح الشخص منفيا ويحمل ذاكرتين، أي ينشطر إلى شطرين، وسيكون من الصعوبة بمكان أن يعيد الوحدة إلى نفسه. وقد أوضح الأنباري أنه خلال العشرة أعوام الأولى من تجربته في المنفى، أصدر روايتين وثلاث مجاميع قصصية، جميعها كانت تدور أحداثها في أماكن داخل العراق، كما لو أنه كان يحاول أن يتطهر من الماضي باستعادته، حسب تعبيره، لكنه بعد فترة من العيش في المنفى اتسمت بالهدوء والتأمل، انتبه إلى أن هناك تجربة أخرى بات يعيشها، هي تجربة التزاوج بين المنفى والبلد، آنئذ بدأ يشتغل في كتاباته على إشكالية التوزع بين ذاكرتين، ونتج عن ذلك أكثر من رواية تناولت تجربة الشخص المنفي العائد إلى وطنه، وكيف يعيش تجربته الجديدة، وقد تمثلت برواياته «نجمة البتاوين» وأقسى الشهور حيث بدأ المكان العراقي يهيمن مرة أخرى في نتاجه.
كما أضاف الجزائري في حديثه إن «منفى العراقيين يختلف عن الآخرين، فالعرب مثلا كانوا يسافرون إلى بلدانهم كل سنة بشكل طبيعي، ولهذا لم تتغير عليهم الأمكنة بشكل فاجع، مثلما هي في تجربة العراقيين، فقد حصلت قطيعة زمنية طويلة بيننا وبين المكان الذي غادرناه، فحدث الانفصال عن المكان واغتربنا عنه، حتى كدنا ننساه». وهنا يستذكر المرة الأولى التي عاد فيها إلى العراق بعد عام 2003 وحالة الشعور بالغربة القاسية عن المكان التي لازمته، ولكي يتعرف على الأشياء من جديد ويتآلف معها كان عليه أن يبذل جهدا ويتحلى بالصبر لأن كل شيء قد طاله التغيير، ومن وحي هذه التجربة أصدر كتابه «حرب العاجز.. سيرة عائد، سيرة بلد».
حديث الجزائري والأنباري تناول تفاصيل كثيرة حول العلاقة بين المكان والمنفى في الرواية، والمشاغل التي تحيط بالروائي، إذا ما عاش هذه التجربة لاستكشاف جوانب إنسانية وثقافية، ستسمح بالتالي للقارئ أن يتوغل في أعماق الشخصيات وتجاربهم، وكيفية تأثير المكان والمنفى على حياتهم.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية