أتساءل أحياناً عن سبب شجاري المستمر مع ولدي. لـمَاذا يتحدى كل ما أقوله له؟ ولماذا تبدو نصيحتي بثقل الكون عليه أو كأني أسقيه سماًّ؟ ولماذا أشعر بالمرارة لعدم الأخذ بما أنصحه به. فكل نصيحة تأتي مني يقابلها بردٍّ يثير حفيظتي:
لماذا؟
وما أجده غريباً هو مدى تقبله للنصيحة عندما تأتي من أحد أصدقائه! حين أحاول تبرير ذلك السلوك، يعتريني غضبٌ لا يسعني كبحه. لكني أتمالك نفسي وأقول له:
يا ابني لا تكن عدوَّ نفسك! السعيد من اتعظ بغيره.. أما الشقي فمن اتعظ بنفسه!
كنت أنطق بتلك الكلمات، لكنني أستمع إلى صوت أمي وهي تحدثني عندما كنت بنفس عمره. أتذكر كلامها، وكم أتعبتها بعنادي. وها أنا الآن أعيش تلك التجربة وأحس بكل لحظة ألم مرّت بها. لكنني تذكرت مواقف دفعني إلى الضحك والبكاء في آن واحد:
انتقلنا إلى بيتنا الجديد، ولم أكن قد ألفت المنطقة أو ساكنيها بعد. فقد كانت مختلفة عن تلك التي نشأت فيها. الشوارع والمارة وكل ما حولي بدا مختلفاً. أما أنا فقضية أخرى! كان في إمكاني أن أتأقلم مع كل من أصادفه. كنت صديقة لبائعة الخبز والبقّال، وكنت رفيقةً للشعراء والفنانين أيضاً! أعشق شعر التفعيلة وقصيدة النثر والشعر العمودي، كما أحب الشعر الشعبي، حتى وإن لم أفهم منه شيئاً، إذ لم أكن أجيد اللهجة العامية وتعابيرها الدارجة تماماً. لم أكترث لذلك، فما كنت أستمتع به هو وقع القصائد على الروح وما يجعلني أشعر به حين أستمع إليها. كنت أشعر بالزهو لأني أشبه أبي: أكتب الشعر والنثر، وكنت رسامة أيضاً! يسعني أن أكون كل ما أريد: أستمع للأغاني الغربية بأنغامها الصاخبة، وإلى موسيقى موزارت وباخ الرائعة، كما كنت أستمتع بالأغاني الشعبية التي تبعث على السخرية أحياناً، لكنها تدفعني إلى الرقص والغناء! وكان الأصدقاء يستغربون ذلك:
أنت غريبة الأطوار! كيف تحبين كل تلك الأشياء في آن واحد؟ إن ذهبتِ إلى حفلة أغانٍ غجرية أو حفل أوبرا، فإنك تستمتعين بالقدر نفسه! ولا مشكلة لديك في مصادقة بائعة الخضروات أو ابنة الوزير! كيف يمكنك ذلك! ترقصين وترسمين وتلقين القصائد بذات الشغف!
أحببت كل تلك الأشياء حقاً، ولم يكن بالأمر الغريب عليّ، فقد عشت أربع سنوات في مدينة إنجليزية، وصادقت أهلها، مع أني في البداية لم أفهم كلمة واحدة من لغتهم! لا شيء مستحيل بالنسبة لي! فبوسعي تجاوز كل تلك العقبات!
لم تكن أمي مسرورة بهذا السلوك. فقد منعتني من الاختلاط بالفتيات اللاتي يبعن الخبز والخضار:
لا ينبغي لك أن ترفعي الكلفة بينك وبين الآخرين. أنت ابنة شخصية معروفة، لها وزنها في المجتمع، تصرفي على هذا الأساس!
وبطبيعة الحال، فإنني أفعل عكس كل ما تطلبه مني، وسيصبح ما نهتني عنه أول شيء أفكر بفعله حين أستيقظ صباحاً. والذي زاد الطين بِلّة، هو إنني كنت أفضل رفقة أبناء أصدقائنا من الوسط الثقافي لا بناتهم!
يمكنكم تخيّل غضبها مني، وكم وضعتها في مواقف كانت في غنى عنها! لم أكن أريد إغضابها قط، لكني نشأت في بيئة مختلفة عن مجتمعنا وعاداته. حين كنا في إنجلترا، لم أشعر بالفرق بين الأولاد والبنات، فكلنا أصدقاء نلعب سوياً! ولم أر من والديّ أي تحفظ يجعلني أمتنع عن صداقة الأولاد هناك، فلماذا الآن! كنت أفضل اللعب أو النقاش مع الأولاد أكثر من الفتيات. أحببت كرة القدم وكرة السلة، وأحببت ركوب الدراجات والركض وتسلق الأشجار والجدران! لم أكن مهتمة بالدمى والحلي البراقة أو أحمر الشفاه.
بعد عودتنا إلى بغداد، كنت أبدو للكثيرين وكأنني شديدة الميل لانتقاد معظم ما يدور في مجتمعنا من عادات، حتى أصبحتُ موضع جدلٍ لمن كانوا يرون في تصرفاتي، وفقاً لبعض القيم الاجتماعية آنذاك، ما يجعلها أقرب الى الطيش أو التمرّد.
أصبحت الأوضاع أكثر سوءاً عند انتقالنا إلى البيت الجديد. فالمنطقة يسكنها خليط غريب، غير متجانس من المسيحيين والصابئة والمسلمين. لم ألحظ الفرق حقاً حتى أصبحنا في شهر محرم! كنت أرى مجموعة من النساء والفتيات يمشين مسرعات من بيت إلى آخر! تقودهن امرأة ترتدي الثياب السوداء وعباءتها على رأسها! وبالطبع، انتابني الفضول: من أين يأتين؟ وأين يذهبن في تلك الساعات الملتهبة؟ رأيتهن يدخلن إلى بيت جيراننا ذات يوم، أناس طيبون، أصبحت صديقة ابنتهم وأخيها الذي يصغرنا سناً. دخلت البيت لأشهد هذا الجمع الهائل! ففوجئت بحلقة كبيرة من النساء يضربن صدورهن وجباههن على إيقاعات ما ظننته غناء السيدة التي تصدرت المجموعة. كلمات تروي موقعة كربلاء التي استشهد فيها الإمام الحسين بأبيات شعر مغناة لم أعد أتذكرها، لكني لا أستطيع نسيان وقعها عليّ ولا على الأخريات!
كانت تلك «الأغاني» تتباين في سرعة وتيرتها، فبعضها بطيء يتطلب من كافة النساء أن يضربن صدورهن بحركة موحدة، وبعضها الآخر كان سريعاً، وعلى اثنتين منهن أن تتقابلا في وسط الحلقة وتضربا جبينهما بحركات متناسقة لدقيقة أو أكثر، ثم تخرجا لتنزل مكانهما اثنتان أخريان. كان صوت المرأة رخيماً، شجياً يفيض حزناً! وكانت كلماتها تدمي القلب!
كنت أنظر إليها بذهول! من هذه السيدة؟ ولماذا تترأس هذا الجمع من النساء وتملي عليهن ما يقمن به وكيف «يلطمن»؟ سألت صديقتي عنها فقالت:
هذه الملاية! إنها تأتي في شهر محرم للقراءة على الحسين!
تظاهرت بأني أفهم ما تقول، واستمررت بمشاهدة تلك السيدة والإصغاء إلى قصائدها المؤثرة: مجازر لا نهاية لها، وأشلاء مضرجة بالدماء والطين، وسبايا مكللات بالهزيمة واليأس يقتادهن القتلة إلى بلاد الشام. استمرت بإنشادها لربع ساعة، ثم رحلت مع بقية النسوة لأداء «الفقرة» ذاتها في بيت آخر من بيوت الحي.
بدأت أنتظر مرورهن في نفس الوقت من كل يوم لكي أنضمّ إليهن في هذا الطقس الحزين. وكما هو الحال دائماً، لا بد أن تتقصى أمي ما يحدث! فتبعتني إلى بيت الجيران كي ترى ما أفعله هناك. ما زلت أذكر دخولها إلى الغرفة المكتظة، وتلك الصدمة التي ارتسمت على وجهها وهي تراني جزءاً من تلك الملحمة النسوية الشجية! لكنها تمالكت أعصابها ووقفت تستمع إلى القصائد وتضرب على جيبها كالأخريات. ليتني انسللت خارجة دون أن يلاحظني أحد، ليتني اقتربت منها وسألتها مندهشة عن سر تواجدها في مكان كهذا! لكني لم أفعل. وبدلاً عن ذلك، قررت، ودون سابق إنذار، أن أدخل الحلقة وألطم بكفيّ على جبهتي مع الفتاة التي قابلتني! ولا زالت تلك النظرة التي علت وجه أمي تثير فيّ مشاعر متضادة يختلط فيها المضحك بالمبكي في اللحظة ذاتها، فأحس كم أتعبتها بعنادي وتمردي. وكم قلت مع نفسي: أعانها الله عليّ! لكننا لم نتكلم عن هذه الحادثة لسنوات! ولم تمنعني من الذهاب إلى تلك القراءات أبداً..
بقيت أفكر بتلك السيدة بعد انتهاء شهر محرم. كنت منبهرة بها وبما تقصه من حكايات مفجعة.. وقد حفظت الكثير مما كانت تقوله وتنشده من قصائد ومراثٍ. كنت أتذكرها وأتساءل: هل وُلِدت لتكون مُلاية؟ هل عرفت أن هذا هو مصيرها؟ هل أدركت منذ الصغر بأنها ستجني لقمة عيشها من خلال إبكاء من يستمع إلى قصائدها؟ هل تشعر حقاً بهذا الألم الذي تتغنى به! هل كانت تنهار باكية لما حل بالإمام الحسين وآل بيته فعلاً، أم كان ذلك كله مجرد طريقة لكسب العيش؟ هل كانت، حين تعود إلى منزلها وترتدي دشداشتها، تزاول أعمالها المنزلية وكأن شيئاً لم يكن؟ هل كانت شاعرة تسكب علينا الحزن والأسى أم تاجرة أتقنت صنعة العذاب والموت والنحيب؟
بعد فترة، ذهبت مع أمي إلى سوق الخضار والفواكه، وفيما كنا نتجول هناك، إذا بي أسمع صوتاً يكاد أن يكون مألوفا لديّ، لكني لا أذكر أين سمعته من قبل. كان صوت امرأة تخوض مشادة عنيفة وبلغة هابطة مع أحد الباعة. أغمضت عيني لوهلةٍ، لأحاول تذكر الصوت. أنها هي! الملاية، ذات الصوت وذات المرأة بعينين لا تشرقان بالدمع أو الكآبة، بل بوقاحة لا تضاهى.
نظرت إلى أمي التي بادلتني نظرة تخلو من الدهشة والاستغراب، وكأنها مرت بهذه التجربة سابقاً، أو أن صمتها كان إشارة بأن ما زال أمامي الكثير لأعرفه عن البشر وعن طباعهم الغريبة.
لو عاد بي الزمن إلى ذلك الوقت، هل كنت سأبدو على غير ما أنا عليه اليوم؟ هل سأتحلى ببعض الحكمة والتروي قبل أن أخوض في تلك الجدالات التي لا طائل منها؟ هل سأكون أكثر هـدوءاً وتأنّياً في الحكم على ما يظهر لي من سلوك الناس ونواياهم الخفية؟
قاصة من العراق